مقاومة إعلان خاتمة: تأملات في الذكرى العاشرة للثورة في اليمن

مقاومة إعلان خاتمة: تأملات في الذكرى العاشرة للثورة في اليمن

مقاومة إعلان خاتمة: تأملات في الذكرى العاشرة للثورة في اليمن

By : Kamilia Al-Eriani and Ross Porter

كاميليا الأرياني وروس بورتر 

في العام 2021، حلّت الذكرى العاشرة لـ"ثورة الشباب اليمنية" الشعبية السلميّة. وتميّزت تلك السنة بصدور ونشر عدد كبير من التعليقات البحثيّة والصحافيّة التي تكوّن خلاصات عن فشل أحداث الربيع العربي أو نجاحها. في الحالة اليمنية، كانت غالبية تلك الخلاصات تتحدث عن فشل ذريع. هناك تحوّل الاحتجاجات السلميّة في 2011 إلى عنف غير مسبوق لاحقا في 2015، وانهيار الحركة الثورية، وتشكيل جيوش متنازعة، وتزاحم عدد هائل من السلطات الاستعمارية في شبه الجزيرة العربية على الهيمنة على البلاد. بطرق شتى، ذلك هو جوهر حكاية مأساة ثورية: السعي والفشل، واستسلام مثل عليا في مواجهة الواقع، وظهور الاستبداد مجددا. ومع ذلك، وإذا توقفّنا لمراقبة كيف أحيا الثوريون في اليمن ذكراهم العاشرة، تظهر في الصدارة صورة ثورة تتحدى السرديات السائدة عن نهايتها. في خضّم حرب خطفت أرواح نحو ربع مليون إنسان، سمعنا كلاما عن فترة جميلة في 2011، وعن الاستقامة وأخلاقيات نموذجيّة خالدة؛ وعن حدث سيعود جوهره للتبلور من جديد. وإلى جانب هذه الاحتفاءات، سمعنا أيضا اتهامات بالخيانة، وبالتخاذل، وبثورات مضادة وأخرى معدّلة، وبنخب منتفعة استغلّت الوضع. في هذه القطعة القصيرة، المبنية على العمل الميداني خلال السنوات الأولى للحدث، وعلى مراسلات حديثة مع أصدقاء من الثوار، وعلى أفكار نشرت إحياءً للذكرى، نقترح أن آثار هذه الثورة مستمرّة على مستويات متعدّدة، من الذات الفردية وصولا إلى الخلاف ذاته الذي أسس لقيام الحرب الحاليّة. ومع اقتراب ذكرى سنوية جديدة، نقترح أن ما اندلع قبل عشرة أعوام يستمر في تحدي أي خاتمة.

جمال وحنين

في مطلع شباط\فبراير 2021، في مدينة التربة في محافظة تعز، احتفل تجمع صغير يتألف من بضع مئات من الأشخاص، بالنزول إلى الشارع. كان في الأمر تغاض واضح، في ظل حرب وحشية مستشرية منذ سنوات، أسفرت عن مقتل مئات الآلاف من الأشخاص جراء القذائف والرصاص والمرض والمجاعة. مشى أفراد العائلات في شارع جمال، يدا بيد، فيما أولادهم يلوّحون بالبوالين ورايات يمنيّة صغيرة. وكان من بينهم شبّان وشابات كانوا أطفالا حين اندلعت الثورة قبل عشرة أعوام. واندفع بعض الجنود، المجازين من الجبهة، يمشون إلى جانب "الشباب"-أي الرجال والنساء الذين أطلقوا الدعوة لإسقاط النظام في 2011. والاحتفال بحدث يحمّله كثيرون مسؤوليّة الكارثة الحالية لم يمر مرور الكرام عبر وسائل التواصل الاجتماعي من قبل الذين شجبوا تمادي الثورة. وفيما كانت المسيرة تتلاشى، صودر ميدان عام قريب لإحياء الذكرى: دارت أحاديث عن ماضي الثورة وحاضرها ومستقبلها، واستعادات لكل ما أنجزته، وتصريحات حول استمرارها. مع حلول المساء، غطت الألعاب النارية السماء، وعملا بالأعراف، قام جندي بإضاءة شعلة الثورة. ثم أعلن، أمام الكاميرات التلفزيونية والحشد الصغير الموجود، إخلاصه للثورة، مستذكرا تضحيات الشهداء، ومسترجعاً أسمى الإنجازات الثورية، المحتضرة منذ زمن- حين قام جنود مثله بمواجهة آلة الحرب التابعة للنظام وهم عزّل في التظاهرات، يواجهون طلقات النظام بصدورهم العارية.

قام شباب ثوريون سابقون في مختلف أنحاء البلاد وفي المنفى بالاحتفال بالمناسبة منفردين، ناشرين صورهم وهم أصغر سنا على "فيسبوك"، وهم يجلسون في الخيم في المعسكرات الثورية السابقة، أو يمشون في الشوارع، باسمين دوما. وطغى الثناء على التعليقات الواردة (على المنشورات الإلكترونية) والمشيرة إلى "الأيام الجميلة" وإلى الثورة "الحقيقيّة" و"المجيدة". واستذكروا، احتراماً كل منهم لذاته ولبعضهم البعض، "حسهم المدني"، وكيف اتحد خصوم سابقون اعترافا بوجود عدو واحد مشترك (نظام الرئيس علي عبد الله صالح، 1978-2012). واعتبروا أنه كان حدثا للتوكيد على الحياة، حدث فاضل بالفطرة، وسيتعافى في الوقت المناسب. وعلى الرغم من أنه كانت في استعادة الحدث درجة معينة من السرور، إلا أنّها كانت تخفي في الوقت ذاته قلقا مؤلما من مرور الزمن ومن محدودية مسار الحياة البشرية. وحملت رسالة من صديق تشكيكا في إمكانية الاتحاد مجدّدا بالطريقة نفسها، في تلميح يائس إلى حال التشتت والانقسام الحالي بين الأصدقاء والرفاق القدامى الذين جمعتهم المعسكرات الثورية.

وشدّد منشور آخر تمت مشاركته على مواقع التواصل الاجتماعي، على أهمية رواية المفاصل البارزة للمقاومة. وأفاد أنه يجب تسجيل كلّ تفصيل من تفاصيل الثورة، من الهتاف الأول "سلميّين!"، إلى الخيمة الأولى التي نصبت، إلى الشهيد الأوّل، والصلاة الجماعية الأولى. واستذكر (المنشور) المجازر في المعسكرات باعتبارها تعكس تلاقي نقاء التضحية مع إبداع السياسة. وذكّر بـ "مسيرة الحياة" الأولى-وهي عبارة عن عملية خروج جماعي على امتداد 250 كيلومترا من ميدان الحرية في تعز إلى ميدان التغيير في صنعاء في نهاية العام 2011- على أنّها الرحلة "المقدّسة" للمقاومة التي سعى "الشباب" من خلالها لإنقاذ الثورة من مكائد الأحزاب السياسيّة (لاسيما "الإصلاح" أو "التجمع اليمني للإصلاح")، والوفود الأجنبية (الأممّ المتّحدة ثم السفير الأميركي). 

ودعا المنشور إلى كتابة كل تفصيل من تفاصيل المسيرة، مهما كان صغيرا: كيف تم التخطيط لها، وكيف عبروا الجبال على الأقدام ليلا نهارا، وماذا أكلوا، وعما تحدّثوا، وكيف استُقبلوا على امتداد مسيرتهم، ولحظة نزولهم إلى صنعاء حيث واجهتهم نيران الرشاشات في شارع السبعين. وشدّد المنشور الإلكتروني على أن "تذكّر مسيرة الحياة يعني حفر مكانتها في تاريخ ثورة 2011، كونها، في آن، فعلا ثوريا متواصلا ومصدر وحي للأجيال والثورة الآتية."

النقاء والخيانة 

تنبع التصريحات المتسمة بالمبالغة في تلميحها إلى نقاء الماضي من عذابات (حالية) غير مسبوقة. فغالبية الشباب الذين اعتبروا الذكرى العاشرة فرصة لمشاركة الذكريات عن حدث ضاع منذ زمن طويل، أمضوا السنوات الأخيرة عاطلين عن العمل، في المنازل، معزولين، وأهدافا، هم أنفسهم، لثورة فرعية عصفت بالبلاد في 2014. وبالنسبة لهؤلاء الشباب، فإن ما حدث في 2014 هو فعل خيانة، مع تحالف واضح مع الصفوف المتصدّعة في المعسكرات الثورية، لإقالة الحكومة الانتقاليّة، ونشر العسكر على امتداد البلاد، وتقديم مصالحهم على مصالح الشعب. وفي خلال أشهر من بعد الاستيلاء على السلطة، قام تحالف من 22 دولة بقيادة كل من السعودية والإمارات، بالإضافة إلى الحكومة الانتقالية، بالرّد باستخدام قوة عسكريّة كاسحة. وكان الثوار الجدّد، المعروفين باسم "أنصار الله" (وغالبا بالحوثيين)، قد ظهروا كحركة لإعادة إحياء الزيديّة في الثمانينات، لمواجهة التفرقة الدينية والسياسية التي مارسها (ضدهم) نظام صالح والهيمنة السعوديّة. وبالنسبة لهم، فإن الثورة الجمهورية في 1962 التي أطاحت بالإمامة الزيديّة، تحوّلت إلى ذريعة لإبعادهم عن الحياة السياسية ككل. خلال الثورة، كان الثوريون يشتبهون بأن لخصومهم-وكثير منهم يدّعون اليوم أنهم كانوا من الثوار- يد في تحويل مسار الأحداث لمصلحتهم. أمّا خارطة الطريق النهائية الناتجة عن مؤتمر الحوار الوطني في 2013-2014 -وهو حدث هلّل له موفد الأمم المتّحدة معتبرا أنه "حل سياسي" للخلافات والانقسامات العديدة في أنحاء البلاد- فقد اعتبر الثوار (هم وفصائل أخرى مثل "حركة استقلال الجنوب") أنّ كلامها عن "إنقاذ اليمن" هو مخطط للتخلي عن جهودهم الثورية وتضحيات شهدائهم، عبر تقييدهم بحياة من الحرمان الاقتصادي القسري ضمن التقسيمات الاتحادية المقترحة حديثا. أيا كان فعل الخيانة الذي يختار المرء تصديقه، فإن معظم اليمنيين اليوم يعانيون من وحشية حملات القصف السعودية التي بدأت في 2015، والتي لا تستهدف الثوار وحدهم بل البنى التحتية الأساسية التي تجعل الحياة ممكنة. وكثيرون ممن يدينون الحملة السعودية يدينون في الوقت ذاته استبداد "أنصار الله" الذين يفوق احترامهم للطائرات المسيّرة التي تحوم فوق رؤوسهم، مدى احترامهم لحياة البشر وللاختلافات البشرية.

وجد العديد من الشباب بعض المواساة بالتمييز بين "أخطاء" ثورتهم و"خطاياها". وأحد هذه "الأخطاء" هو أن الثورة لم تندلع مع اكتمال شروطها الذاتية، بل تطلب اندلاعها دفعاً وفّرته الأحداث في كل من تونس ومصر.

ومن بين الشباب الثوريين الذين بقوا في اليمن حتى اليوم، يمضي الكثيرون وقتهم وهم يصبون جهودهم على تغذية صورهم السياسية الرمزية في وسائل التواصل الاجتماعي. في المقابل، يشعر آخرون أن ظروفهم رمتهم في الميادين، وقادتهم إلى الجبهات التي لم يتخيلوها يوما لهم. ويتحسّر طالب من المعسكرات الثورية في صنعاء على اللحظة التي أصبح فيها جنديا مشردا متنقلا بين الخطوط الأمامية في الضالع في سبيل "الشرعيّة" (أي الحكومة الانتقاليّة)، مدفوعا بالتزام أخلاقي لحمل السلاح بعدما دمّر أنصار الله منزل أسرته. وهو يعي التناقض الصارخ بين من كان عليه وبين من صار عليه، ويريد للناس أن يعرفوا أنه لم يكن لديه الخيار. بالنسبة لآخرين، لم يكن الانضمام إلى الجيش ناتجا عن عقيدة أو محنة شخصيّة على قدر ما كان سببه ضرورة تأمين دخل في ظل اقتصاد حرب. ووجدت أقلية ممن يملكون المؤهلات اللازمة وظائف في منظمات إنسانية، وأعاد آخرون صياغة أنفسهم متحولين إلى محلّلين سياسيين ضمن مجموعة شاملة من الخبراء. ونجح البعض في الفرار من البلاد إلى القاهرة، حيث يساعدون في نقل جرحى الحرب بين المطار وبين المستشفيات المحليّة. وهرب آخرون إلى قطر حيث لديهم أقارب، أو إلى إسطنبول حيث يديرون محطّات تلفزيونية ثوريّة.  وغادر البعض إلى موسكو، أو القرن الإفريقي، والبعض إلى شرقي آسيا، فيما عبر آخرون الصحراء الكبرى للحاق بزوارق تبحر من الشواطئ الجزائرية باتجاه أوروبا. بالنسبة لكثيرين، فإن وضع "اللاجئ" أصبح تصاعديا. فالنزوح لا يشمل فقط المتنقلين، العابرين للقارات، أو من ينتهي بهم المطاف في مخيمات النزوح الداخلي. فحتى الذين بقوا، يعيشون نزوحا وجوديا، إذ يجد الثوار السابقون أنفسهم اليوم بلا مكان أو هدف ضمن واقع بائس.

في سعيهم لإجراء جردة حساب للاضطرابات الحالية، وجد العديد من الشباب بعض المواساة بالتمييز بين "أخطاء" ثورتهم و"خطاياها". وأحد هذه "الأخطاء" هو أن الثورة لم تندلع مع اكتمال شروطها الذاتية، بل تطلب اندلاعها دفعاً وفّرته الأحداث في كل من تونس ومصر. وعلى سبيل المثال، تعرب إحدى الرسائل المنشورة الكترونيا عن الأسف لأن الثورة لم تكن "يمنية الأصل"، بما يوحى بغموض بأنه كان يُفضّل أن يكون التحرك أصيلاً. ويتلاقى هذا الإيحاء، عن غير عمد، مع إصرار الرئيس صالح في أوائل 2011 على الاستثناء اليمني: إن اليمن يختلف عن جاراته وأن أي اضطراب سوف يُعزّز النزعة الطبيعية لاندلاع حرب أهلية. والخطأ الآخر يتعلق بالبراءة الشديدة للشباب الثوري، مما جعل من المعسكرات ساحة قابلة للاستغلال من أجل المنافع الخاصة للأحزاب السياسيّة والأفراد الفاسدين. أما الخطيئة فجاءت من عالم النخب المنحازة للسلطة السياسية والتي عزلت الثورة. ويذكّر الشباب منتقديهم بأنهم ليسوا من دفعوا باتجاه مبادرة انتقال السلطة التي منحت الحصانة لصالح، وليسوا من قام بدعوة تحالف عسكري يتألف من 22 دولة إلى أرضهم، كما أنهم ليسوا من تواطئوا مع أنصار الله. ومع ذلك، استمر العديدون في منح ثقتهم للنخب السياسية، حتى وإن كان لدى البعض منهم ارتباطات قديمة بالنظام السابق. وهم لا يرون أن ذلك يتناقض مع قيمهم الثوريّة.

وعلى الرغم من هبوطهم إلى تصنيف الخطايا بسبب فعل الخيانة الكبير الذي ارتكبوه، إلا أن أنصار الله لم يسمحوا للذكرى العاشرة أن تمر من دون احتفال. فهم أيضا احتلّوا ميادين الثورة، وقدموا حصّتهم من الشهداء، ومشوا عبر شوارع العاصمة مستحضرين إرادة الشعب ومحتفين بتحضّر الرسالة الثورية. وعلى الرغم من غياب الاحتفالات في شوارع صنعاء، إلا أنهم استذكروا عبر محطتهم التلفزيونية أحداث 2011 من منظار معادي للإمبريالية. وكانت الذكرى العاشرة مناسبة ليذكّروا أنفسهم وأعدائهم كيف قامت كل من واشطن والسعودية والنخب اليمنية المرتبطة بأحزاب المعارضة بمصادرة الحدث من أجل مكاسبهم الشخصية. وذكّرونا أن مبادرة انتقال السلطة ومؤتمر الحوار الوطني الناتج عنها إنما كانت ترمي لتكريس الهيمنة الاستعمارية على اليمن. ومن بين هذه الاستحضارات استخلصنا رسالة إضافية، مضمرة، مفادها أن: فلنبذل أقصى جهدنا لضمان أن ماضي الاستبعاد السياسي لن يعيد نفسه. وأكد التقرير التلفزيوني في الخلاصة أن ثورة فبراير 2011 أنقذها "الشعب" في أيلول\سبتمبر 2014. بالنسبة لأنصار الله، فإن الحرب الحالية تدّل على أن الثورة لم تنتهِ.

البراءة والتغاضي

فيما كان الشباب يحتفلون بحدثهم الجميل، كانوا يعرفون أن الكثيرين يحمّلونهم المسؤوليّة المباشرة عن الحجم الهائل للمعاناة التي تكتسح البلاد اليوم. ولا يهم كثيرا إن اعتبروا أن حدثهم صودر أو تعرّض للخيانة. يبقى إنهم هم من أطلقوا هذا المسار عبر زعزعة نظام قائم ولو كان نظاما سلطويا. أمّا المقيمون في الشتات فيعرفون أنهم حين يكتبون عبر مواقع التواصل عن نقاء ثورتهم، سيواجهون حتما تعليقات تتهمهم بأنهم يتمتعون بامتيازات مادّية، ولا يعانون مثلنا، وبعدم الاكتراث، وبالانغماس في الذات، وبالحماسة العمياء. بالنسبة لمن يدينون الثوّار، فإن ما حدث في 2011 كان نكبة. مثلا، وردا على رسالة عبر وسائل التواصل تشيد بالفعاليّة الثورية وتقدمية مؤتمر التربة، سأل رجل بوضوح "ولكن هل يتقبّل المؤتمر النقد الذاتي"؟ 

وكلما اشتّدت شراسة النقد، زادت شراسة مزاعم البراءة، بدا الحدث أكثر نقاء. ويزدري الشباب أنصار الله بسبب فعل الخيانة الذي ارتكبوه، إذ جلسوا معهم في الخيم يتحدثون اللغة الثورية ذاتها فيما هم يتآمرون (يخطّطون) للتخريب. وهم يرون أن انتصار هذا العدو هو انتكاسة-عودة إلى عصر من التخلّف والاستبداد، من مخلفات الإمامة التي انطلقت ثورة 1962 في وجهها. ويمتزج الكلام عن الانتكاسة مع مخاوف من "أشباح صالح" الذين يحومون في الحاضر، رافضين السماح بنهوض "اليمن الجديد" من بين الأنقاض. وينشر الشباب مقالات في صحف الكترونية تسعى لتذكير كل من يبدي شعورا من الحنين للنظام والقانون في عهد صالح، أن الحياة قبل الثورة كانت "مسدودة"، مع استحالة التحدث عن أي نوع من أنواع التقدمية.

بالإضافة إلى رسائل تذكيرية بحدثهم المجيد- المتمثل بمسيرات نموذجية أخلاقياً تجوب شوارع صنعاء محاسبة الفاسدين والمفسدين، ويتسم المشاركون فيها بالكرامة قولاً وفعلاً، متحدّين كل الذين يهددون اليمن الذي في تصورهم-نجد إعلانات جريئة بأن "الثورة مستمرة"! وبالتالي، تظهر نزاهة الفرد الثوري الأصلي وقد بقيت سليمة تحت أنقاض المعركة المرعبة والدامية- إذ أن الثورة كانت ومازالت "ثورة سلمية لا تحمل السلاح، بل وردة الحب وحمامة السلام، وتغني أغنية الوطنية والحرّية"، كما يشرح أحد الناشطين. ويجد آخرون ملجأً في الاعتقاد بأن الثورة أعادت صياغة نفسها على أرض المعركة ضمن استمرارية سَلِسلة انطلقت في 2011. هناك ميزة للعنف. ويرافق مزاعم الصمود والتأقلم الثوريين، إشارات عَرضية إلى تصورات مثالية (مسيحانية) بدولة مدنية مستقبلية تستعيد الحدث الجميل. وتتقاطع أصوات أخرى قائلة: "لقد انكسرنا لكننا غير نادمين" و "لا عارا في ثورة فيراير (2011)". وفي المجالس الخاصة يتحدثون عن الصدمة النفسية وجيل ضائع.

ثم هناك الذين لم يقولوا شيئا في ذكرى حدثهم. هؤلاء رفضوا بقوة العودة للاحتشاد خلف خطط كبرى وكلّ ما تعد بتحقيقه في سبيل الظرف الإنساني. ولأنهم لا يرغبون بتحرير الماضي من ظل الحاضر، فإنهم يجدون ملجأ في الاعتقاد بأنه من الأفضل عدم الإيمان بأي شيء.

الدعوات إلى خاتمة

ما الذين يتعين استخلاصه من هذه الأصوات المتنافرة؟ هل يتعين أن نقول بقناعة أن هذه الثورة نجحت أو فشلت؟ هل نحتاج إلى أسطرة الأصوات الموحدة بهدف رواية حكاية موّحدة؟ غالبا ما يُعتقد أن ثورات الربيع العربي فشلت لأنها كانت تفتقر إلى رؤى فكرية شاملة حول التغيير الاجتماعي. إذا كان اتحاد من هذا النوع هو شرط مسبق للثورة، يصبح بإمكاننا إلقاء ثورة العام 2011 في اليمن بسرعة في مزبلة التاريخ.

ومع ذلك، نقترح أن القيام بذلك سيعني تفويت تجربة ثورة بصفتها ثورة. كان العنصر المميز لهذه الثورة لدى اندلاعها في 2011 هو مروحة واسعة من الناس، لديهم مروحة واسعة من المعتقدات، يحتفلون بالتغيير الثوري لأنه جوهري على الصعيد الشخصي. اليوم، حين نسمع أصواتا كثيرة متنافسة تقول إن الثورة مستمرة، وأنها تعرضت للخيانة، وأنها أعادت انتاج نفسها، وأنها عائدة، أو أنها ستدوم عبر الاخلاقيات الشخصية، فإنه يتعين أن نحترس من فرض خاتمة أو افتراض الفشل. وعوضا عن ذلك، ربما يمكننا فهم الخلاف المفتوح، والنزاع المفتوح، والاختلاف المفتوح-وكلّها تشكّل وصفة للفشل- بصورة أفضل، إذا اعتبرنا أنّها جزءّ لا يتجزأ من قصة الثورة نفسها. 

[نشرت في جدلية. ترجمة هنادي سلمان.] 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Resisting Closure: Reflections on the Tenth Anniversary of Revolution in Yemen

      Resisting Closure: Reflections on the Tenth Anniversary of Revolution in Yemen

      2021 marked the tenth anniversary of the Peaceful Popular Youth Revolution in Yemen. It was a year distinguished by a proliferation of scholarly and journalistic commentaries forming conclusions about the success or failure of the events of the “Arab Spring.” In the Yemeni case, most of these conclusions have been those of overwhelming failure. Peaceful protests in 2011 eventually transmuted into violence on an unprecedented scale in 2015, the revolutionary movement imploded, rival armies assembled, and a plethora of imperial sovereignties in the Arabian Peninsula jostled for supremacy in the country. In many ways, it is the quintessential story of a revolutionary tragedy: of aiming and failing, of ideals succumbing to reality, and of an authoritarian resurgence. And yet if we take a moment to observe how the revolutionaries in Yemen marked their decennial anniversary, an image of revolution comes to the fore that defies over-arching narratives of closure. In the midst of a war that has cost the lives of nearly a quarter of a million people, we heard references to a beautiful moment in 2011, to virtuous being and exemplary morals that survive the ages; and to an event whose essence will materialize once more. Along with these celebrations, we also heard accusations of betrayal, self-indulgence, rival and reinvented revolutions, and of free-riding elites. In this short piece, based on fieldwork in the early years of this event, recent communications with revolutionary friends, and reflections published to mark this anniversary, we suggest that traces of this revolution endure at a range of levels, from the individual self to the very discordance that underpins the current war. As another anniversary beckons, we propose that what erupted ten years ago continues to defy closure. 

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬