يواصل فضل شاكر سبل العودة منذ عام 2018، عندما قدم أغنية "ليه الجرح" معلناً بها التراجع عن قرار الاعتزال، وقد دعّم هذه العودة بكثافة الإنتاج وتنوعه، فلعله اليوم واحد من أنشط نجوم جيله، الذين بدأوا التوقف أو التعثر واحداً تلو الآخر.
الغناء في الإقامة الجبرية
في أغنيات العهد الجديد يكافح شاكر ظروفاً عدة، أهمها إقامته الجبرية في مخيم عين الحلوة، التي تحجبه عن جمهوره من جهة، وتحد من قدرته على الوصول إلى أدواته، التي تقيم ظهر مسيرته الفنية، لكن يبدو أن الفن أقوى من الظروف كلها، فها هو قادر على مواصلة الإنتاج برغم كل تلك التعقيدات، التي تلقي بين الحين والآخر بظلالها على أعماله، فيظهر ذلك في لجوئه إلى تكنيك هجين لتصوير الكليبات، كما فعل في كليب أغنية "قاعد مكاننا" الذي أخرجه الفنان الأردني منذر رياحنة. هذه التحديات تصب في رصيد الفنان، الذي توقف شطر من مجايليه دون أن تقيّدهم ظروف قاسية مثل ظروفه.
لا بد أن شاكر يواجه إذن مقاطعة فنية، خشية أن يخسر المتعاونون معه جمهورهم، بسبب مواقف سياسية مبنية على لائحة الاتهامات في حق الفنان، والتي لم يحسمها القضاء تماماً، لكنه مال لصالح براءته، ومع ذلك ما زال فضل ينجح في إبهارنا بين الحين والآخر.
ألبوم بجامل ناس
ألبوم "بجامل ناس" واحد من المفاجآت الفنية التي اضطلع بها فضل شاكر مؤخراً، وهو ألبوم اشتمل على ست أغنيات، من إنتاج شركة روتانا. لنحيّدْ الظروف التي أُنتج فيها الألبوم قبل كل شيء، ولنشتغلْ بمعزل عن هذه التحديات، لأن محاكمة العمل لا تعني محاكمة الفنان، الذي قطع في رأيي شوطاً يجعل المسألة مجرد إعادة تقييم، وليست تقييماً مجرداً.
اشتمل الألبوم على أغنيتين باللهجة مصرية، وواحدة باللبنانية، وثلاث أغنيات باللهجة الخليجية، والمثير أن التنوع حاضر برغم تمسك النجم بلونه الذي اعتلى به قمة الانتشار خصوصاً في مطلع العقد الأول من الألفية.
تفتتح الألبوم الأغنية التي حمل عنوانها، من كلمات محمد الجمال، وألحان مدين، وتوزيع ومكساج وماسترنج يحيى يوسف، وتعالج الأغنية المشاعر الإنسانية السائدة في هذه الحقبة من الحياة، قد يبدو هذا التعبير مبالغاً فيه، لكنه منطقي لو وسّعنا نظرتنا لتشمل من حولنا، ثمة كآبة تتمدد في العيون، نؤجل الحديث عنها في غمرة ظروف العمل وابتسامات السوشال ميديا المزوّرة، كأن الأغنية تقول كل ذلك بشكل مباشر وغير مباشر في آن، إنها دعوة أفلح محمد الجمّال في صياغتها لكتمان التعب والحزن، والتجمل بالابتسامة، كي لا يسيطر الضعف على ملامحنا ومشاعرنا:
"بجامل ناس وبضحك عادي واتكلم
كأن مفيش في قلبي وجع وبتألم
وبتعامل كأني سليم وعال وتمام
وراضي بجرحي يمكن منه أتعلم"
قادت الشعرية الجمّال، ليصف الحزن بالمرض، فاستخدم السلامة ضداً للحزن إذ قال "كأني سليم"، تَطابُقُ هذه الحالة مع صورة فضل شاكر في أذهاننا بعد ما تعرض له من اتهامات ومنزلقات قاسية، منح الأغنية قوة مضاعفة للانطلاق نحو قلب المستمع لا أذنه فقط.
واللافت أن كلمات الأغنية جاءت على نحو من الكثافة ينسجم مع أمرين، الأول ذاتي متعلق بحالة الكتابة، إذ يقول:
"ولو فضفت يعني الناس هيهتموا؟
ده كل واحد شايل ومعبي من همه
وجواه جرح يمكن زيي ومخبيه
تشوفه الناس تقول مبسوط ويتخَمُّوا"
ومع ذلك يسهب في "الفضفضة"، حيث تتوزع الأغنية على سبعة مقاطع، سوى تكرار أحد الكوبليهات، وهو ما يعتبر ازدحاماً شعرياً، قياساً بالشكل السائد الذي يشتمل على مذهب وكوبليهين، ومن ناحية أخرى تنسجم هذه الكتابة مع الشكل الذي بدأ يتسلل إلى الأغنيات مؤخراً، الإسهاب أو الازدحام، كأن الناس انتبهت من جديد إلى أولوية وقع الكلمة، فثمة تيار جديد يولي النص - طولًا وعمقاً – حصة أكبر في الأغنية، وعلى ذلك أمثلة عدة، منها أغنية "عليك عيون" لأحمد سعد.
في اللحن استخدم مدين تكنيكاً اعتاد أن يلجأ إليه لتطويع الأغنيات ذات النصوص الثقيلة، وهو الجنوح إلى الغيتارات، والاعتماد شبه الكلي على الكوردات في ما يتعلق بالإيقاع، كي لا تصبح الأغنية سمينة، فتستطيع الجريان نحو القلب، على أنه راوح في اللحن بين مقام النهاوند ذي الأبّهة ومقام الحجاز البكائي، فمنح الأغنية جسداً عفيّاً.
ولفضل شاكر تجربة طويلة في الأغنية الخليجية، ولكن أغنيته الخليجية ليست كأغنية غيره، فكأنه يجذبها نحو دائرته ولا يمشي نحوها، 3 أغنيات خليجية هي "توقعني"، من كلمات محمد القاسمي وألحان إبراهيم الغانم، وتوزيع جوزيف دمرجيان، و"العزيز" كلمات فيصل الشعلان وألحان محمد طويحي، وتوزيع علي أباظه، وقد اختلفت الأغنيتان من حيث المبنى اللحني كأساس، فاعتمدت الأولى على الغناء "الفالت" والإيقاعات المتفرقة، أما الثانية فنحت نحو الإيقاع البلدي، وهذه المزاوجة بين الكلمة الخليجية والإيقاع المصري وقد أصبحت خطاً لحنياً معروفاً، كان شاكر من روّادها في ألبوم سيدي روحي 2003، أما أغنية "عز الغياب"، من كلمات الشاعر أحمد الصانع، وألحان عبد القادر الهدهود، وتوزيع أحمد أسدي، ومكس وماسترتنج جاسم محمد، فهي في رأيي واحدة من أفضل أغنيات فضل شاكر منذ عودته، فإلى جانب التصوير الشعري العميق ثمة إحاطة لحنية تشتغل على شق مسارات لنهر الغناء المتدفق على إيقاع الرومبا.
"جيت من عِز الغياب وقلت أشوفك
وأتمنى إنّك تكون بخير وسالي
يا مْبدّل أمْنِك بْـقربي بـخوفك!
وش جرالك في الغياب، ووش جرالي".
السلاسة في اللحن والانسياب في الإيقاع والغناء، جعلا الأغنية سهلة التناول، وناعمة الجريان، رغم أنها تفوق الدقائق الخمس على الإيقاع نفسه!
أما أغنيتا إبعد خلاص من كلمات وألحان عمرو الشاذلي وتوزيع علي أباظة، ودمعة من كلمات أحمد ماضي وألحان زياد يوسف وتوزيع عمر الصباغ، فجاءتا أغنيتي قالب إن جاز التعبير، لم تنقُصا عن المعيار المطلوب، ولكنهما لم تزيدا شيئاً، أغنيتان من النوع القريب إلى الأذن، ولكنك تحسبهما من ألبومات شاكر القديمة.
معدن الصوت الثمين
وفي كل هذه الدوامة التي تخرج منها أغنيات فضل شاكر على هذه الوتيرة المُرضية، ثمة أمران ملفتان، الأول استطاعة الفنان المراوحة بين حدود لونه وطابعه من جهة ومحاولات التجديد المحدودة من جهة أخرى، على نحو مُرضٍ وناجح وذكي، والأمر الآخر هو حفاظ فضل شاكر على صوته كأن العمر لم يمسه منذ أن غنى أول مرة، خامةً وإحساساً، وحلياتٍ، وقدرة على التطريب دون إجهاد الإذن، إنما باستثارة المشاعر واللعب على فراغات جواك!