راوغتُ كثيرا فكرة الكتابة عن هدراوي، إلى أن داهمتنا فاجعة رحيله قبل أسبوعين، والفاجعة كعادتها حين تقتحمُ لا تُبقي أمام صاحبها طريقًا للهروب. لعل رغبتي المتردّدة تلك تعود إلى أن رموز الساحة الثقافية الصومالية ظلوا مجهولين طويلًا للقراء بالعربية، وقد كرّرتُ ساخرًا في مناسبات سابقة، أن المعرفة الوحيدة الموجودة في العالم العربي عن الصومال تقتصر على الشريط العابر في أسفل القنوات العربية الإخبارية، والذي يكرّر أخبار الحرب ومتعلقاتها من كوارث. وهي لا تورث لصاحبها معرفة من أي نوع، بل مجرد صورة ضبابية عن الصومال وأهله.
أحاول في هذا المقال تناول سيرة الشاعر الصومالي الراحل هدراوي كرونولوجيا من مناح أدبية وشخصية وسياسية. وأزعم أن تجربته تتيح لنا أبعادًا مهمة للإضاءة على بعض جوانب التاريخ الصومالي، وتحديدًا سأعمد انطلاقا من سيرة الكاتب لتتبع تجربة القومية الصومالية ومن ثم الدولة الصومالية في مساراتها المتلاحقة.
سيرة الشاعر
لم يشهد الفضاء الافتراضي الصومالي تفاعلًا مع أي قضية أو حدث كالتفاعل الذي شهده طيلة الأسبوعين الماضيين مع رحيل شاعرهم الأبرز هدراوي. بدت لحظة نادرة تسامى فيها الصوماليون عن كل تشظياتهم وتحيزاتهم وانقساماتهم السياسية والمناطقية والجغرافية والجيليّة، وتشاركوا جميعًا حسرة رحيله. وتداولوا بكل لغات منافيهم البعيدة والقريبة أشعاره، وصوره، وكلماته، وخُطبه. من كان هذا الشخص الذي أثار رحيله موجة من المشاعر الجيّاشة في قلب منطقة يرتدي فيها الموت قناعًا مألوفًا؟
محمد إبراهيم ورسمي المعروف باللقب "هدراوي" شاعرٌ وملحنٌ وكاتبٌ مسرحيّ، ومترجمٌ وأستاذٌ جامعيّ وشخصية عمومية في المجال الصومالي. كما أنه فيلسوف (الكلمة هنا ليست بالزائدة)[1]. برز منذ الستينيات بوصفه الاسم الشعري الأبرز في الساحة الصومالية، وظل محل إجماع وطني وقومي في واقع صومالي باتت الثقافة وحدها تشكّل محل الإجماع الوحيد في بحور الانقسامات.
ولُد هدراوي في برعوا في عام 1941، وهي مدينة في وسط ما كان يُسمى "محمية صوماليلاند البريطانية". انتقل إلى عدن اليمنية حين كان في العاشرة من عمره، وهي مستعمرة بريطانية أخرى ظلت إلى وقت قريب مدينة كوزموبوليتية، يعيش فيها أبناء المحيط الهندي والبحر الأحمر، من الساحل الصومالي حتى بلاد فارس والهند. ودرس في ثانوية القديس أنطوني في عدن. وكتب أول مسرحياته فيها في العام 1966 بعنوان Hadimo (مؤامرة)؛ وهي مسرحية تتحدث عن الاغتيال الفظيع الذي تعرض له المناضل الكونغولي باتريس لومومبا. وحدّد بذلك موقعه من العالم في ذلك الوقت المبكر من عمره كمناضل ضد الاستعمار، وكمدافع عن انقهارات المعذبّين. عاد هدراوي إلى الصومال بعد اندلاع حرب استقلال اليمن الجنوبي في عام 1967، بمعية أسماء أخرى ستصبح رموز الثقافة الصومالية الحديثة، أمثال سعيد جامع حسين[2].
الجمهورية القومية الصومالية
تصادفت عودة هدراوي مع انقضاء سبع سنوات من قيام الجمهورية القومية الصومالية، والتي نشأت من اتحاد المحمية البريطانية صوماليلاند والصومال الإيطالي، وكانت الدولة الوليدة تصمّم استعادة الأقاليم الثلاثة الأخرى من الأمة الصومالية تحت رايتها: إقليم عفار وعيسى الفرنسي (جيبوتي حاليًا) الذي كان يقبع وقتئذ تحت سيطرة فرنسا، ومنطقة الصومال الغربي في إثيوبيا (تُعرف شعبيًا بإسم أوغادين)، ومنطقة الحدود الشمالية في كينيا. يُطلق على هذه السياسة التي قامت عليها الجمهورية الصومالية بـ"الصومال الكبير"[3] Pan-Somalism. واستمدت الدولة الصومالية مشروعتيها من وحدة محكوميها اللغوية والعرقية والدينية والثقافية[4]، حيث كان للرومانسية القومية تأثيرٌ جليّ على توجهّات القوميين الصوماليين. وآمنوا، كحال أقرانهم من القوميين العرب، أن اللغة والإرث التاريخي عوامل كافية بأن تشكّل الهوية الموحدة بين الأقاليم الصومالية الخاضعة للاستعمار.
المثير في الأمر هو الدور المحوري الذي لعبه الأدب في بناء الأمة الجديدة وتصوراتها عن ذاتها. فقد انبثق الأدب القومي مع ولادة الدولة القومية الصومالية ومعاركها. خصوصا أن معظم الأدباء الذين نهضوا بتقعيد هذا الأدب كانوا ينتمون إلى اليسار الماركسي المنادي بأدب ملتزم بالنضال ضدّ الاستعمار والاستغلال. وقدموا بإهاب طموح عن الأمة الجديدة: فقد صورت الأغاني الرومانسية الوطنية الدولة الوليدة كناقة حلوبة ترمُز إلى الرخاء والوفرة، نجد هذا ابتداءً من أغاني حسين أو فارح (1928-1998) وعبد الله سلطان "تيمو عدّي" (1920-1973) على التوالي، ويشبّهان الدولة القومية وسيادتها بـ"مانديق" وتعنى ترجمتها المباشرة: "التي يطربُ لها القلب". بُثت أغانيهما على نحو متواصل في الراديو الوطني، وتكرّست "مانديق الحلوبة" في الوعي الشعبي (الرعوي) كمقابل لمفهوم الدولة القومية التي تحمل لهم كل الخيرات[5].
في هذه المناخ، برز هدراوي كواحد من الأدباء الرومانسيين بمسرحياته وأغانيه التي تمزج معاني العشق بين الأرض والأم والحبيبة، كما نشاهد في أغنيتي Jacayl dhiig ma lagu qoray "كتابة الحب بحبر الدم"، أو أغنيته Baldwyne، وهي أغنية ذات مغزى ملح، فتمزج حب فتاة بعشقه لبلدة في وسط الصومال تدعى بلديويني Baldwyne، لدرجة أن استعارات صوت العاشق يمكن أن تفسّر بالفتاة والبلدة في نفس الوقت.
بحلول عام 1969، شهدت صيرورة بناء الدول الجديدة في أفريقيا والعالم العربي انعطافة جديدة؛ استولى ثلاثة ضباط، معمر القذافي وجعفر نميري وسياد بري، على السلطة في ليبيا والسودان والصومال على التوالي. جاءت هذه الانقلابات بوعود الإصلاح والتحديث. أطلق المجلس العسكري في الصومال مشروعًا قوميًا يرتكز على تقعيد ثقافة صومالية قومية، وقام بحملات ضخمة لمحو الأمية، وأسس أكاديميات وطنية، وكرّس اللغة الصومالية كلغة رسمية مع اعتماد تهجئتها بالحرف اللاتيني في عام 1972، وصوْمل المناهج التعليمية، وشيّد المتاحف والمسارح الوطنية (للمصادفة الساخرة: تزامنت سياسات بري باعتماد القومية اللغوية مع نفس سنوات انضمام الصومال إلى الجامعة العربية)[6]. لعب الفنّانون والأدباء الدور الأبرز في هذه العملية. وساهموا في تثقيف الجماهير في الوعي القومي الوطني. وأمضوا حياتهم بتأليف وغناء النصوص الأدبية العظيمة، وبالدفاع عن المستضعفين؛ حيث النضال القومي بالأغنية، وبالعاطفة التي تفتح الطريق مباشرة من الفم إلى القلب.
تقول إحدى أغاني هدراوي والتي تروّج للغة الأم في إبان تدوين اللغة الصومالية بشكل رسمي:
"سأظل أمينا للغتي الأم..
وسأبني متوسِّلا بها..
سأرعى أمتي بها..
وسأستغني بها عمَّا سواها..
وسأفنى من أجلها.."
مسارات الشاعر مع التجربة القومية
تكاد تجربة النظام العسكري القومي في الصومال تتطابق مع غيرها من التجارب الكلاسيكية في إفريقيا والعالم العربي، حيث يقوم النظام بتحديث الاقتصاد وبدعم الصناعة والمسرح والثقافة والتعليم، ويتوعد الأعداء في الخارج، ويدخل خصومات إقليمية ودولية تحت حُجج الدفاع عن سيادة الأمة، ومن ثم عندما يملّ من نفسه، ينتهي إلى السلطوية المحضة. ولهذا، لم تدم علاقة النُخب الثقافية مع السلطة العسكرية طويلًا. وأصبح هدوراي في هذه المرحلة من أكثر الشعراء نقداً للسياسة في الصومال، والتزم بفضح السُّلط الاستبدادية والقهرية، بأشكالها العسكرتارية والاستعمارية. وكان يعتنق الشيوعية الأممية ككثير من مجايليه من الأدباء والمثقفين من جنوب العالم في وقتها. والتزم بالمناداة بضرورة انعتاق العالم الجنوبي من الهيمنة الامبريالية، وكتب أشعاره عن سنغور وحرب الولايات المتحدة على فيتنام وتحرير فلسطين والفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
تقول إحدى قصائده التي تفصح عن موقفه الملتزم تجاه المجتمع:
"القصيدة البديعة ثمينة..
ليست خليطًا غامضًا من الكلمات..
ولا تباهِ بأغانٍ فارغة..
إنها لهفة مُؤرِّقة..
إنها قلق.. ومشاعر
إنها مرآة مجتمع.. وصرخته المدوِّية.. وتصفيقه الحار
القصيدة البديعة دليل المجتمع..
وعلامته الفارقة
وميراثه الأزلي"
استطاع هدرواي تطوير القصيدة الصومالية أكثر من غيره لأسباب تعود إلى تجربته الستينية التي انطلقت من اليمن، والتي شملت أجناسا أدبية وتعبيرات فنية متعددة: القصة والمسرح، والشعر. وسمح هذا بظهور جيل رافض ومتمرد على كلاسيكيات القصيدة الصومالية الحديثة، ومنحدرٍ من مرجعيات سياسية وأيديولوجية متعارضة. وسرعان ما غدت قصيدة هدراوي عنواناً لهذه المرحلة لاحقا؛ بعد أن تخلصت من غنائيتها وصارت أكثر مواءمةً لحساسيته الجديدة، وأكثر قربا من إيقاع النثر. نشاهد ذلك من خلال تحقيقه انتشارًا لم يحققه أي شاعر صومالي آخر في الوسط الفني. وقد غُنت ولُحنّت معظم أغانيه من قبل أبرز الأسماء الفنية وقتها: محمد موجي ليبان، حليمة خليف عمر (مغول)، محمد سليمان تبيع، حسن آدن سمتر. وقد شكّل هذا مصدر إحراج للسلطة، فالجماهير مولعة بالاستماع لهؤلاء الفنانين، ولا يستطيع النظام منع حفلاتهم الجماهيرية. وبنفس الوقت يخشى النظام من نبرة النقد الذي تحمله أغاني هدراوي ومسرحياته كمثقف عضوي ينحاز لوعي الجماعة في صراعها الطبقي ونضالها المستميت من أجل العدالة الاجتماعية، ومد الهيمنة الإمبريالية الغربية ووحشية البيروقراطية العسكرية.
ابتدر هدراوي في عام 1973 سلسلة قصائد[7] بعنوان "سينلي Siinley"، والتي ستتحوّل إلى مانيفستو ضد النظام الاستبدادي؛ بأغنية يَرثي بها موت "مانديق" بعنوان "Hal la qalay/الناقة المذبوحة"، وتتحدث عن مصير "الدولة الناقة" في ظل نظام العسكر، واستخدم أساليب بلاغية تغلب عليها التورية. ونشر أيضًا مسرحية أخرى استهدفت بالنقد الحكومة العسكرية بعنوان "Tawaawac/مقاضاة". تسبب هذان العملان بحبسه في "Qansax dheere"، لمدة خمس سنوات (1973-1978). وحُظرت أعماله، لكنه استمر في كتابة الشعر الذي كان يهرّب إلى الجمهور، ويُتداول على نطاق واسع. وكتب في ذلك الوقت قصائده الأكثر تنوّعًا من حيث الموضوعات، والتي تراوحت ما بين التاريخ إلى القضايا المجتمعية والعالمية، وحقوق الإنسان إلى جانب قصائده الفلسفية المتأملة لحياة الإنسان ومصيره. وحرضت قصائده المهرّبة من السجن شعراء آخرين مثل رفيقه محمد حاشي دمع "غاريي" (1949-2012) إلى جانب شعراء أخرين، للمشاركة في السلسلة التي ستتحوّل في غضون سنوات إلى أهم سلسلة شعرية في الشعر السياسي الصومالي الحديث.
زاد النظام العسكري في فترة السبعينات من حُمى القومية الوطنية؛ وسعى بكل قواه لاستعادة الأراضي المفقودة؛ وشرع في دعم تمرد الإقليم الصومالي في كينيا، ومن ثم شنّ حربًا وحشية ومدمرة ضد إثيوبيا في عام 1977، التي كانت انضمت لتوها للمعسكر الشرقي مع مجيء الانقلاب الذي نفذّه منغستو هيلا مريام ضد الملك هيلا سيلاسي المدعوم من قبل الولايات المتحدة. لكن للمفاجأة انقلب الإتحاد السوفيتي على نظام سياد بري واصطف مع نظام الديرغ، وأرسلت كل من اليمن الجنوبي وكوبا سرب طائرات وعشرات الآلاف من المقاتلين إلى الميدان لدعم إثيوبيا على الأرض، وذلك كان بإيعاز من قيادة الاتحاد السوفيتي. وفي النهاية سُحق الجيش الصومالي بشكل مدمِّر. وبالنتيجة، أدت هذه الارتدادات الى إحداث انقسامات في داخل الجيش، تخللته محاولات من قبل ضباط لتنفيذ انقلاب فاشل ضد بري، يتزعمهم العقيد عبد الله يوسف، ومن ثم هربوا إلى دول الجوار، كينيا أولا ثم إثيوبيا، الدولة التي لتوّها خرجت حربًا مع الصومال. وأسسوا هنالك أول جبهة لإسقاط النظام: "الجبهة الديمقراطية الصومالية للإنقاذ" (SSDF).
تأزم الدولة واغتراب الشاعر
خرج هدراوي من السجن في الثامن من أبريل عام 1978، قبل يوم من محاولة الانقلاب الذي قاده عبد الله يوسف وضباطٌ آخرون ضد سياد بري. ومنذ ذلك التاريخ دخلت الصومال مرحلة جديدة من التأزم الداخلي، وغرقت في انقسامات داخلية عنيفة. وتأسست جبهات في الخارج لإسقاط النظام-الذي تحول إلى نظام دموي يقصف المدن بالطائرات والفوسفور الأبيض، وجنّد مرتزقة من نظام الأبارتهايد الجنوب الإفريقي لسحق شعبه. كان هدراوي من ضمن المثقفين الذين قرروا محاربة النظام والمشاركة في صفوف الجبهات المسلحة، وانضم إلى الحركة الوطنية الصومالية (SNM).
أثارت (وما تزال تثير) محاربة النظام العسكري بيد الجبهات المعارضة المدعومة إثيوبيًا سجالًا ساخنًا بين النخب الثقافية الصومالية-بكافة تنويعاتهم: كيف نستعين بدولة لتوّنا خُضنا حربًا معها، دولة كنا نراها بالأمس القريب عدوًّا وجوديًا لنا، دولة ما تزال تحتل أراض صومالية؟ وتزايد إلحاح هذا السؤال بفشل جبهات المعارضة بتقديم بديل واضح بعد سقوط النظام، فباستثناء (SNM) التي أعلنت انفصال المناطق الشمالية- صوماليلاند حالياـ وعودتها إلى الحدود الاستعمارية، هوت البلاد في أتون حرب أهلية ما زالت الصومال تُعاني من أحداثها المؤلمة.
باختيار هدرواي المشاركة في النضال ضد سياد بري، وانضمامه إلى الحركة الوطنية الصومالية التي تأسست 1982، وبعد مرور أربعين سنة من ذلك الموقف الذي انقسم بسببه الصوماليون لإسقاط نظام مافيوزي، ينقسم الصوماليون مرة أخرى اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي، لا حول صحة مواقف من أسقط النظام من عدمه، وإنما حول الإفرازات التي أنتجها إسقاط النظام. لقد دخل الصوماليون صراعات مريرة على معنى الدولة الوطنية، بعد اضمحلال الدولة القومية التي قامت عليها السردية الوطنية.
ينبع هذا الجدل (أو الصراع بكلمة أدق) من فشل تجربة الدولة القومية التي نادى بها الصوماليون، حيث أضحت التجربة الصومالية علامة لفشل الكيان القُطري نفسه. ومع اختلاف صيرورات كل بلد وتجربةـ ارتدوا اليوم واقعيًا عن الحلم الوحدوي حيث عادت الأقاليم الاستعمارية الخمسة بكياناتها الوطنية القُطرية، فجيبوتي نالت الاستقلال في عام 1977 وأعلنت عدم انضمامها إلى الصومال الكبير، وصوماليلاند أسست دولتها الخاص بعد الحرب وأعلنت رجوعها عن الوحدة عام 1991، بينما بات سكّان المقاطعة الشمالية الشرقية في كينيا مواطنين في الدولة الكينية، أما صوماليو إثيوبيا، فمع أنهم عانوا من عُسر تحولات تشكّل الدولة الأثيوبية، إلا أنهم يمتلكون اليوم إقليمًا فيدراليًا خاصًا بهم، ضمن إثيوبيا الفيدرالية الحالية. بقي الصومال الجنوبي والذي يعيش واقعه القبلي وانقساماته الداخلية مع خطاب رومانسية القومية على مستوى الخطاب، وهو الصومال الذي يعرفه العالم عن المسألة الصومالية.
وبالعودة إلى هدراوي، صحيح أن إعلان قيام ولادة صوماليلاند تم على يد الجبهة التي حارب في صفوفها، لكن هل كان هو موافقًا على الانفصال؟ ليس ذلك محسومًا.. لكن الأكيد أن فشل الوحدة جاء نتيجة لتضاعيف انهيار الدولة المركزية، وإغراقها بحروب وصراعات داخلية. ورغم ذلك، من الجدير بالاهتمام ملاحظة أنه لم ينغلق بعد عودته على البقاء في صوماليلاند، كما فعلت باقي النخب الثقافية والوطنية الأخرى، لم يفعل هذا هدراوي، بل ظل يتحدث عن حلم الأمة الصومالية، وبقي وفيا لهذا الحلم. لقد شرع في مسيرة سلام في عام 2003 في الصومال امتدت إلى مدينة كيسمايو الساحلية في أقصى الجنوب، برفقة زملائه الشعراء والكتاب والموسيقيين. كما كرّر ذات التجربة في 2006 في غمرة الاجتياح العسكري الإثيوبي للصومال.
فقد الشاعر في سنواته الأخيرة إيمانه بالشيوعية الأممية[8]، وفقد كذلك القدرة على مواصلة التجديد الشعري. كانت تجربته في المنفى البريطاني (1991-1999) مليئة بالخيبات. وعانى نوعًا من الانفصام بين ما يؤمن به في الصميم، ولا جدواه واقعياً، وهو ما نراه من قصيدته المدوية: Dabahuwan. مع ذلك، ورغم تضاعيف اغترابات هدراوي التي نشيرها، إلا أنه لم يتخل عن التمسك بوطنه وأمته الكبيرة. واستحالت هاجساً يشغله. وظل يتحدث عنها كتهويم يتجاوز الواقع.
ما يجعل هدراوي اليوم محل إجماع بين الصوماليين، هو أسلوبه الشعري الفريد، وإيمانه غير المساوم بالصومال الشامل. تتحدث قصائده إلى جميع الصوماليين وتخترق انقساماتهم السياسية. على عكس أدباء آخرين مالوا بإبداعهم إلى العشائرية أو المناطقية. والأهم من كل هذا أنه جعل الشعر الصومالي يلمع في العالم. لكن طبعا ليس من أجل أن يُطلق عليه الصحافيون المريضون بالمركزية الغربية "شكسبير القرن الأفريقي"[9].
لنتساءل في الختام: ماذا بقي اليوم من الأحلام التي نافح عنها هدراوي طيلة نصف قرن وأكثر؟ لا نبالغ عندما نقول بقيت كلها. ما زالت الأمة الصومالية كأمة ثقافية تشترك بالثقافة والتاريخ والوجدان متمسكة به وبنهجه الفريد. هذا ما يقوله لنا مشهد الالتحام حوله بعد رحيله. لكن الأكيد أن الصوماليون سجلوا فشلًا في تشكيل أمة سياسية قائمة على المواطنة في دولة واحدة موحدة، وهو الفشل البادي من انهيار الدولة مع انهيار النظام القومي قبل ثلاثة عقود، وصعوبة استعادتها حتى اليوم.
وتعد الثقافة اليوم نقطة الالتقاء الوحيدة للصوماليين، وسيتعين عليهم التمسك بإرث شاعرهم الخالد. كما أن عليهم الترويج لأعماله وترجمتها للجمهور العالمي الأوسع، الذي ينتمي إليه بفنه وأدبه وتراثه الرفيع، الم يُعلن بورخيس -بتصرّف، إن تراث الأديب هو تراث العالم.
هوامش:
[1]: ثمة ميلٌ متزايد مؤخرا لتحرير تعريف الفلسفة من الإطار الأكاديمي الغربي، خصوصًا فيما يتعلق بتصنيف الفلسفة الأفريقية، والتي تتصف بتاريخ طويل من الإقصاء من نهج الفلسفة العالمية. يدعو باسكا مونجويني في كتاب أصدره مؤخرا إلى النظر إلى الفلسفة والفكر الأفريقيين كممارسات محددة من خلال تاريخهما المعرفي الخاص وأسئلته. ويغطي تاريخ تطور الفلسفة الأفريقية ونضالها من أجل التحرر من القوالب والافتراضات الاستعمارية والعنصرية. ويكشف أن التحرر الحقيقي يبدأ بفهم المرء لعالمه من موقعه، محاججًا بإعادة النظر لمفهوم الفلسفة الإثنية، ذلك المفهوم الذي غالبا ما طُرح كمقابل سلبّي للكونية التي يجب أن تتحلّى بها الفلسفة أو معرفة أخرى. والمثير أن الطرح ليس استفزازا للأكاديميا الغربية وحدها، بل هو تحدٍ للافتراضات التي يقدمها كتاب غير أوربيين عن مفهومي المحلية والكونية، مثل المقالة التي كتبها حميد دباشي تحت عنوان "هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟" في معرض رده على نص لسلافوي جيجك، يتحدث الأخير فيه عن الفلاسفة الهامين والفاعلين في هذا الزمن، ويعدّد قائمة من الأوروبيين الذين يعدهم فلاسفة اليوم، حيث يؤسس زعمه بالتالي على كل من الذات والزمن الغربيين، والذين يعدّان في الحقيقة ملكية حصرية لأوروبا. وأرى أن هذا نقطة أساسية لأي محاولة لاستكشاف تقليد فلسفي آخر وفقًا لشروطه الخاصة، ولا يمكن لأي تفكير من دونها أن يفترض العالمية. ينظر: Pascah Mungwini, African Philosophy Emancipation and Practice, Bloomsbury Publishing. 2022.
[2]: عُرف ذلك الجيل في الوسط الصومالي باسم Xabbadi Keentay/ الفارّون من البارود.
[3]:I. M. Lewis, Pan-Africanism and Pan-Somalism, The Journal of Modern African Studies. Vol. 1, No. 2 (June 1963), pp. 147-161
[4]: بالطبع كما في كل خطاب قومي يستند على وحدة مزعومة: تذهب الأقليات اللغوية والدينية الأخرى ضحية. وهذا ما حصل في الصومال.
[5]: للمزيد ينظر كتاب البروفيسور علي مؤمن أحمد حول هذا الموضوع:
Ali Mumin Ahad, Somali Oral Poetry and the Failed She-Camel Nation State: A Critical Discourse Analysis of the Deelley Poetry Debate (1979–1980), Peter Lang Inc. 2015
[6]: أصبح اعتماد الصومالية في الكتابة في تلك الفترة واجبًا وطنيًا. صحيح أن بعض الكتاب مالوا إلى الإنكليزية وبعضهم إلى الإيطالية لأسباب تاريخية معروفة، في مقدمتها التدريس المعتمد وقتئذ. لكن بعد تدوين اللغة الصومالية تعمق الإلحاح على إنتاج ثقافة وطنية، وأصبح خطابا سائدا، وعلى الأرجح فإن التمسك باللغة الصومالية قد وفّر أرضية عدائية للثقافات الأجنبية.
[7]: Yuusuf Cismaan Cabdille, Diiwaanka Siinley (Somali Edition) Paperback – March 8, 2022, Lulu.com (March 8, 2022)
[8]: للمصادفة، انهارت الدولة الصومالية مع انهيار الاتحاد السوفيتي الذي قضى على أمل كثير من الشيوعيين في العالم. لذا أصيب اليسار الشيوعي الصومالي بإحباط وعدم يقين مضاعف.
[9]: وهذا ما تفعله هذه الأيام الصحف الأجنبية التي تُغطي خبر وفاته. لمحاولتها تقريب الفهم لقرائها. لكن هذا النوع من التماثل يهدف إلى إضفاء القيمة على الأعمال الشرقية من خلال تماثلها مع الأسماء النظيرة الأوروبية. وهو افتراض ذلقٌ لمحاولة فهم لغة معينة أو ثقافة ما من خلال عدسة أخرى.