ترجمة نهى الشاذلي
(منشورات حياة، كندا، 2023)
[نهى الشاذلي، روائية ومترجمة مصرية، تخرجت في كلية الآداب، قسم اللغة الإنجليزية، جامعة الملك سعود بالرياض. وتعمل في مجال التحرير الأدبي. صدر لها ستة أعمال: أرواح شفافة - نوفيلا، أنثى النار - رواية، قبل أن يقتلني زوجي - رواية، لعبة الزمن - رواية. اقرأ الناس كأنهم كتاب - ترجمة، للمؤلف باتريك كينغ. ويلسون المغفل - ترجمة، للأديب مارك توين].
[مارك توين، كاتب أمريكي هزلي ولد في ٣٠ نوفمبر ١٨٣٥. حقق نجاحًا كبيرًا بين الكتاب والنقاد بفضل فطنته وحسه الساخر. صادَق الرؤساء والفنانين ورجال الصناعة والأسر الأوروبية المالكة. اعتبر مارك توين أفضل كاتب ساخر في عصره، وأطلق عليه لقب «أبو الأدب الأمريكي»].
جدليّة (ج): كيف اخترت الكتاب، ما الذي قادك نحوه؟
نهى الشاذلي (ن. ش.): قرأتُ "مذكرات آدم وحواء" قبل خمس أو ست سنوات. كانت قراءتي الأولى لمارك توين. سحرني دمجه السخرية بالحكمة، والكوميديا بالوجودية. ظلت من الروايات التي لا تفارق ذاكرتي، تأثرتُ بها في رواية كتبتها بعدها بسنوات عديدة.
لذلك عندما توجَّب عليّ البحثُ عن عمل أدبي كلاسيكي يستحق أن يُتَرجَم، أخذتُ أنقِّب في أعمال مارك توين الكاملة، غير آملة أنني سأجِد عملًا لم يترجم بعد، حتى عثرت على رواية بعنوان Pudd’nhead Wilson”"، لم يتم نقلها لقراء العربية من قبل. بحثتُ عن نسخة عربية للرواية ولم أجد. بدون تردد أو تفكير مرتين، قررت أنها الرواية التي سأعمل على ترجمتها.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(ن. ش.): كُتِبت هذه الرواية بعد أربعين عام تقريبًا من انتهاء الحرب الأهلية التي كادت تمزق أوصال أمريكا. وقعت أحداثها في قرية (داوسون لاندينغ)، تحديدًا في (ميسوري). عالم من الأسياد والعبيد، ذوي البشرة البيضاء والسوداء، أصحاب الدماء النبيلة ودماء العبودية، صراع ترجع جذوره للتفرقة العنصرية والطبقية بين البشر. ستجد الثيمات الأساسية هي:
الطبيعة البشرية وأثر التنشئة عليها Nature versus Nurture، الشرف والأصل، الخيانة، التمييز العنصري المتعسف، وأزمة الهوية.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(ن. ش.): كنتُ أعرف من البداية أن مارك توين أديب من العيار الثقيل، يختار كلماته بعناية خبير، الترجمة له لن تكون سهلة، لكنني اكتشفتُ أثناء ترجمتي روايته أن الأمر أبعد من ذلك. كتب توين الحوار بين شخوص روايته طبقًا لمنزلتهم؛ فالسيد يتحدث بلهجة قريبة مما كان متداولًا بين نبلاء ذلك العصر، ولم أجد مشكلة في هذا، أما الجمل الحوارية المترددة على ألسنة الشخصيات الخاضعة للعبودية، فلن تكون مفهومة في عصرنا. كُتِبَت العبارات بدون الالتزام بقواعد اللغة الإنجليزية، وبحروف خاطئة؛ إنها الطريقة التي نطقوا بها الكلمات وقتذاك. المقصود بعبارة مثل “‘ca’se dey’s” هو “because they are”؟ وعبارة “on’y jes one dol” معناها "only just one dollar“.
في الحقيقة لن تُذكَر أشياء كهذه في القواميس، ولا يمكن الاعتماد على شيء سوى استنتاجي البحت. كُتِبَت نصف الرواية بهذه اللهجة، توجَّب عليّ فك طلاسمها أولًا؛ فأخذت من وقتي وجهدي الكثير، إلا أنني سعيدة لأن من قرأوا الرواية حتى الآن، لم يشعروا سوى بسلاسة اللغة وجمال القصة.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ن. ش.): حتى الآن، ومنذ بدأت في اتخاذ الكتابة كمهنة عام ٢٠١٥، نُشِر لي أربع روايات، وعملين مترجمين، آخرهم رواية (ويلسون المغفل).
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز الترجمة؟ ما هي المراجع التي اعتمدت عليها؟
(ن. ش.): في العادة لا أقرأ أعمال أخرى أثناء الترجمة، أو الكتابة؛ حتى لا أتأثر بأسلوب الكاتب الذي أقرأ له، إلا إذا عانيت من سُدَّة الكاتب. أما في الترجمة، أُفَضِّل الانشغال بالعمل الذي أترجمه فقط، متأثرة بأسلوب الكاتب وحده. بالطبع لا غنى عن القواميس، وفي هذه الرواية بالذات، لجأت للقواميس المحلية التي يدرجون فيها كلمات من لهجة الشارع الأمريكي، لكن بالطبع لم تسعفني كثيرًا في حل طلاسم الرواية؛ لذلك اعتمدت على "صوت" الجملة وكيفية نطقها، حتى أفهم معناها الأصلي. في بعض الأحيان كنت أقرأ الجملة بصوت عالٍ مثلما ينطق بها العبيد في الرواية، حتى أتوصل للكلمات المقصودة الصحيحة، ونجحت هذه الطريقة.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(ن. ش.): رواية (ويلسون المغفل) في اعتقادي، تُرضي جميع الأذواق. هذا ما يميز مارك توين عن غيره. الرواية أحداثها متلاحقة، مُسلية، وفي الوقت ذاته تحمل في طياتها حكمة، وسخرية. هي من الروايات التي تتحقق فيها العدالة في نهاية القصة، رغم ذلك واقعية.
لن تنحصر رواية كهذه تحت فئة عمرية محددة. لو قرأتها لمُراهق في الخامسة عشر من عمره سيحبها مثلما سيحبها رجل عاشق للأدب في الخمسين.
آمل أن يصل أسلوب مارك توين إلى القراء؛ فقد حرصتُ أن أصبغ الرواية بأسلوبه، دون إقحام أسلوبي الخاص في الكتابة.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ن. ش.): عندي ثلاثة مشاريع جاهزة كفكرة، بعد مرحلة الحيرة والسؤال المُلِحّ "بأيهما أبدأ؟" اخترتُ الأهم من وجهة نظري، وأعمل على إنجازه حاليًا.
مقتطف من الرواية
لم يكُن لدى ويلسون الأحمق سوى مبلغ قليل من المال عندما وصل إلى البلدة؛ فاشترى منزلًا صغيرًا أقصى الغرب، على أطراف البلدة. ليس بينه وبين منزل دريسكول سوى مساحة عشبية خضراء، مُحاطَة بسياجٍ شاحب اللون، يفصل بين ممتلكاتهما. كما استأجر ويلسون مكتبًا متواضعًا وصغيرًا في البلدة، وعلى واجهته علَّق لافتة صفيحية مكتوب عليها هذه الكلمات:
(دايفيد ويلسون للخدمات القانونية ونقل الملكية، أعمال الرفع المساحي وغيرها)
لكن ما قاله فور وصوله إلى لبلدة – عن نصف الكلب الذي يريد امتلاكه –دمّر فرصته في النجاح كمحام. لم يأتِ إليه أي زبائن. لهذا السبب، وبعد فترة قليلة من قدومه، نزع اللافتة واحتفظ بها في بيته بعد أن مسح ما كُتِب عليها فيما يتعلق بالقانون وبكونه محاميًا.
أمّا الآن؛ فيقدِّم نفسه للناس على أنه محاسب خبير، ويرفع أيضًا مساحة الأراضي. بين الحين والآخر يجيئه مَن يطلب منه خدمة بخصوص رفع مساحة أحد الأراضي. وأحيانًا يجيئه تجّار يريدون ترتيب حساباتهم.
وبصبر يتميز به أهل (اسكتلندا)؛ لم ييأس ويلسون من العزم على تحسين سمعته ومحاولة ممارسة عمله في المجال القانوني.
مسكين هو! يمكنه أن يعرف مسبقًا أنّه ليحقق ذلك، سوف يستغرق الأمر منه وقتًا طويلًا.
وجد ويلسون أن لديه كثيرًا من أوقات الفراغ، لكنه لم يشعر أبدًا بالملل؛ فهو يهتم بكل فكرة تجول برأسه ويظل يتأمل معانيها ومعطياتها، بل ويهتم بكل ما هو جديد عليه، يقرأ ويبحث ويجرب بعض الأبحاث في بيته.
قراءة الكفّ واحدة من هواياته المفضلة التي شغف بها. لم يخبر أحدًا أبدًا بسرّ حبه هذه الهواية، وإذا سأله أحدهم عن ذلك، يجيبه بأنه لا يقرأ الكف إلا من أجل التسلية.
في الحقيقة يساوره شعور أن كل ما يثير انتباهه ويعجبه، يتسبب له في سخرية من حوله، ويحطّ أكثر من سمعته بين الناس! وهذا يؤكد لهم أنهم على حقّ حين وصفوه بالمغفل. لهذا السبب كان يشعر بالحنق والغيظ كلما تواصل مع الناس أو تعامل معهم.
جَمعُ بصمات الناس من الأشياء التي تستهويه أيضًا! لا تستهويه فقط، بل شغف بها! في جيب معطفه يحمل دومًا صندوقًا خشبيًّا صغيرًا مُقسَّمًا من الداخل إلى أجزاء مستطيلة. في كل جزء منهم توجد شريحة زجاجية رقيقة، طولها خمس بوصات وعرضها ثلاث بوصات. ألصَق تحت كل شريحة ورقة بيضاء صغيرة. يطلب ويلسون من الناس أن يمرروا أصابعهم في شعرهم أولًا (وبذلك تتجمع فوق الأصابع طبقة من زيوت الشعر الطبيعية) ثم بإبهامهم يضغطون على الشريحة الزجاجية، ثم يضغطون بقية الأصابع بنفس الطريقة على التوالي.
أما الورق الأبيض الذي كان يضعه أسفل كل شريحة، يستخدمه ليكتب عليه اسم صاحب البصمة. يكتُب مثلًا:
جون سميث - اليد اليمنى
ثم يضيف التاريخ بالسنة والشهر، ومن بعدها يأخذ بصمات اليد اليسرى لسميث، ويجعله يبصم بأصابعه على شريحة زجاجية أخرى، ويكتب اسمه والتاريخ وعبارة (اليد اليسرى)، ثم يعيد الشرائط الزجاجية بحرص في أماكنها داخل الصندوق الصغير.
جمَّع ويلسون كل الصناديق الصغيرة - التي تحتوي على بصمات أهل البلدة – ووضعها في بيته في مكان خاص سمّاه (ركن السجلّات)،
وفي العادة كان يتسلّى بدراسة هذه السجلات، يراجعها ويتفحصها حتى وقت متأخر من الليل، ولم يخبر أحدًا أبدًا بما يخبئه في هذا المكان.
وفي بعض الأحيان، كان ينسخ الخطوط الرقيقة المتداخلة لبصمات الأصبع على ورقة، ويقوم بتكبيرها باستخدام البانتوغراف ليتمكن من فحص الخطوط المقوسة بشكل أكثر دقة.
في اليوم الأوَّل من شهر يوليو عام ١٨٣٠، بعد ظهيرة أحد الأيام ذات الحرارة المرتفعة التي لا تُطاق، كان ويلسون يدرس كتبًا معقدة عن المحاسبة في غرفة مكتبه، التي تطلّ من الجهة الغربية على مساحة واسعة من الأراضي المهجورة الخالية من كل شيء كأنّها الصحراء. وبينما هو منهمك في عمله سمع صوتًا مُزعجًا في الخارج. حديث محتدم بين اثنين، ونبرة صوت تصل للصراخ؛ ففهم أنها مشاجرة، لا يمكن أن تكون مناقشة وديّة بأي حال من الأحوال.
- اعترفي يا روكسي. كيف جاء هذا الطفل؟" قالها صوت يبدو قادمًا من بعيد.
- جاء مثلما جئت أنت يا جاسبر." قالتها امرأة صوتها قريب جدًا.
- أوه! ولكنني جئت بطريقة طبيعية لا أخجل منها. لا تجعليني آتي إليكِ يا روكسي.
- هيا تجرأ وتعال.. أيها الزنجي، يا شبيه القطط السوداء.
ذيَّلَت روكسي هذا الكلام بضحكة استهزاء رقيعة دون أن تضع اعتبارًا لأي شيء ولا أي أحد.
- أنتِ مغرورة يا روكسي. هذه هي مشكلتك التي تعانين منها للأسف. أنتِ فعلًا مثيرة للشفقة، وهذه المرة سأنال منك.
- يا ربي لقد خفت! نلت مني فعلًا.. أليس كذلك؟ غروري هذا يربكك ويقتلك يا جاسبر. لو كنت أحد عبيدي لبعتك هناك في بلاد جنوب النهر. عندما أرى سيدك سأخبره بكل شيء وأشتكي إليه منك.
استمرت هذه الثرثرة العبثية بعض الوقت، حيث يتبارى الطرفان كأنهما في حرب. كل واحد منهما يشعُر أنه الأذكى والأخف ظلًّا.
لم يستطع ويلسون أن يركز في عمله بسبب صراخهما الذي لا ينقطع؛ فذهب وفتح النافذة ليراقب ما يحدث في الخارج. وجد جاسبر يقف بعيدًا في مكان شاغر وقحل، وهو شاب ممشوق القوام، يتمتع بجسد مثالي، وبشرة لها سواد الفحم. جالسٌ تحت أشعة الشمس الحارقة على عربة صغيرة لها عجلة واحدة وتُجَرّ باليد. يبدو للناظرين أنه في مناوبة عمله، ولكنه في الحقيقة يأخذ استراحة، ويرتاح ساعة قبل أن يعود إلى عمله الشاق.
وتحت نافذة ويلسون وقفت روكسي، وفي يدها عربة أطفال مصنوعة يدويًّا، وضعت في العربة طفليها الصغيرين. سيظن أي غريب من طريقة كلامها وأسلوبها أنها حتمًا من ذوي البشرة السوداء، لكنّها لم تكن كذلك.
لها مظهر مهيب وكأنها ذات مكانة عالية الشأن. معروفة بمواقفها الجريئة، ولها حركات وإيماءات تنمّ عن الأصالة والنبل. بشرتها فاتحة جدًا، ووجنتاها تتوهجان باللون الوردي الدال على تمام الصحة والعافية. لها وجه ذو تقاسيم مُعبّرة، منحوت ببراعة فنان، ويعبّر تمامًا عن شخصيتها القويّة الفريدة. أما عيناها فبُنِّيتان، بهما لمعة جميلة وعذبة مثل الأنهار الصافية. ترتدي سترة ثقيلة مصنوعة من الفرو الناعم بلون عينيها.
لن يفهم الناظرون مِن الخارج حقيقة روكسي؛ لأنها ليست واضحة. فقد غطت شعرها بمنديل قطني منقوش بخطوط ومربعات صغيرة، وتركب عربة مستقلة من ذوات الأربع عجلات و تجرها دابة. وعندما تكون مع من يماثلونها في الطبقة الاجتماعية، تحدّثهم بلهجة مزيج من الفخامة والسوقيَّة معًا! لكن الذي يتضح جليًّا لمَن لا يعرفها أنها امرأة متواضعة، بل متواضعة زيادة عن اللازم مقارنةً بالأسياد ذوي البشرة البيضاء!