[وسيم غنطوس هو باحث ما بعد الدكتوراة في مجال الجغرافيا السياسية، جامعة تامبيري، فنلندا].
تستند هذه المقالة إلى عمليين بحثيين لكاتب المقالة:
رسالة الدكتوراة تحت عنوان "تشعب الاستعمار الاستيطاني وإنتاج التخم الاسرائيلي: تجارب فلسطينية في (عدم) الأمن، المراقبة، وجغرافيا السجن"، جامعة يوتيبوري، السويد، 2020.
Ghantous, Wassim. 2020. Settler-colonial assemblages and the making of the Israeli frontier: Palestinian experiences of (in)security, surveillance and carceral geographies. PhD Dissertation. University of Gothenburg, Sweden.
مقال لوسيم غنطوس وميكو يورونين (2022) بعنوان "تعجيل-المحو: تسريع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين"، والصادر عن المجلة العلمية البيئة والتخطيط د: المجتمع والحيّز.
Ghantous, Wassim, and Joronen, Mikko. 2022. “Dromoelimination: Accelerating Settler Colonialism in Palestine.” Environment and Planning D: Society and Space 40 (3): 393–412.
بما يتعلق بالفلسطينيين، وبالّدرجة الأولى، فإن الأزمة الدّاخلية الصهيونية الحالية ليست أزمة سياسيّة فحسب، فكلا قطبي الطّيف الصّهيوني – الليبرالية الصّهيونية واليمين المتطرّف – يتكآن على ذات اللّبنات المفاهيمية والحسّية المؤسّسة للمشروع الصهيوني والمُوجّهة لعلاقته مع الفلسطينيين: زج الرواية التوراتية في مشروع سياسي حداثي، الفوقية اليهودية وحصريّة السّيادة، عقليّة الضحيّة، العقيدة الامنية واضطرار العسكرة، ومنطق المحو الاستعماري اتجاه الفلسطينيين بأبعاده المختلفة – سياسيا، ثقافيا، ديموغرافيا، وجغرافيا[1]. انما ما يميّز هذه الازمة، وهو ما تطمح هذه المقالة تبيانه، هو صراع حول فيزيائيّة-السّياسة لمنظومة المحو الاستعماريّة: حركتها، إيقاعها، سرعتها، تشكّلها في الحيّز، وكثافتها[2].
فمنظومة المحو التي تتبناها الليبرالية الصهيونية (أو المعارضة الإسرائيلية)، والسائدة منذ عام 1948، تعمل وفق منطق بُنيوي، مُركّب، تجزيئي، وقياسي، بحيث يتم ادراج اجسام سياسية مختلفة في علاقة تحكمها مصفوفة من "الضوابط والموازنات". تتيح هذه المنظومة الفرصة للأجسام الفاعلة – الحكومة، المعارضة، المؤسسة الأمنية، الجهاز القضائي، مؤسسات وحركات المجتمع المدني وآخرين – بأن تأخذ دورا (وإن كان غير متكافئ) في التأثير على بلورة وإعادة تشكيل استراتيجيات المحو والتوسع الاستعماري وتعديلها وفق الظروف المحلية والعالمية. بشكل خاص، يقوم جهاز القضاء الإسرائيلي، والذي يحظى بسلطة واسعة النطاق (في بُنيته الحالية)، بدور رئيسي في تعديل استراتيجيات المحو وإضفاء شرعيّة "قانونيّة" لها. ينعكس هذا الدور بجميع القضايا الأساسيّة: ابتداء من صياغة تعريفات وتسويغات قانونيّة التي تجيز فوقيّة الاثنيّة اليهوديّة وحصريّة سيادتها (كقانون الدولة اليهودية)، مرورا بإعادة تشكيل وإضفاء طابع قانوني لآليّات تهجير الفلسطينيين، مصادرة أراضيهم، وإقامة المستعمرات (كقرار آلون موريه)، كما وتشريع العنف الاستعماري بجميع تجلياته المباشرة، "الاستباقية" والجماعية – هدم البيوت، إغلاق مناطق، سحب إقامات، إبعاد الخ. لكن في الوقت ذاته، يقوم جهاز القضاء الإسرائيلي برسم الحدود لهذه السياسات ودوزنة نسقها وحدتها من خلال قيامه بدور المعايرة بين العنف "المقبول" و"الفائض". فعلى سبيل المثال، لا تجيز المحكمة العليا الإسرائيلية بناء البؤر الاستيطانية على الأراضي التي تمكن أصحابها الفلسطينيون من إثبات ملكيتهم الخاصة لها، وفي بعض الأحيان حكمت بهدمها. من جهة أخرى، وفي حالات استثنائية، يقوم جهاز القضاء الإسرائيلي بتخفيف وطأة العنف أو الضرر الناتجين عن السياسات الاستعمارية، كما كان الأمر مثلا في بعض قرارات المحكمة العليا الإسرائيلية بتعديل مسار جدار الفصل العنصري بالنحو الذي يقلل من استحواذه على أراضي الفلسطينيين ولو بشكل هامشي. ينعكس هذا الدور أيضا في محاكمة مرتكبي العنف "الفائض" (وإن كانت حالات نادرة وعادة ما تكون الأحكام مُخفّفة)، كما كان الحال في حادثة قتل عبد الفتاح الشريف وهو مصاب وملقى على الأرض على يد الجندي أليئور عزاريا في مدينة الخليل. إن هذا الدور للسلطة القضائية الإسرائيلية ( والسلطة التشريعية والأجسام الحكومية المختلفة) يرتكز على نمط إجرائي تركيبي وعلاقة زمنية طويلة الأمد، ممتدة، وقابلة للتسويف. فالمبنى الزمني لجهاز القضاء يعتمد على هياكل بيروقراطية والتي بحسبها يتم تحديد أزمنة للإجراءات القانونية ومواعيد الجلسات كما وإتاحة إمكانية الاستئناف للمحاكم المختلفة تراتبيا. بناء على ما تقدم، فإن منظومة المحو الليبرالية، وإن كانت بين الحين والآخر تلجأ إلى عنف استعماري سريع وكثيف – عمليات عسكرية عاصفة ومحسوبة – فإنها لطالما تعود لتنتج إيقاع محو يومي بطيء وموزون نسبيا، بحيث أن العنف والتوسع الاستعماريان يتمان بشكل زاحف وتدريجي من خلال جُملة من السّياسات والمُمارسات العسكريّة والشُرطيّة، الاقتصادية، التّخطيطية وغيرها.
إن هذه "الميكانيكية" للمنظومة الاستعمارية هي بالتحديد ما تريد الحكومة الحالية (التيار اليميني المتطرف) حلحلتها أو حتى إزالتها بالكامل، وذلك من أجل تعجيل عملية المحو للفلسطينيين وإقامة سيادة يهودية حصرية بين النهر والبحر[3]. بعكس المنطق العقلاني (الموزون والبطيء نسبيا) المُنظِّم لأجهزة الدولة، فهذا التيار يعمل وفق قوة-دفع مصحوبة بحماسة عاطفية-وجدانية (affective) والتي تسعى إلى تحقيق "الخلاص" السياسي والديني – أو الديني-سياسي على وجه الدقة – بشكل اَني ونهائي مُعتبرة أيّة إجراءات من شأنها عرقلة أو إبطاء هذا السّيل الاستعماري على أنها عائق يجب محاربته بضراوة. انعكس هذا التوتر الفيزيائي-سياسي بين قطبي الطيف الصهيوني في العديد من الحالات خلال العقود الثلاث الماضية واشتد ضراوة منذ تشكيل حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية الأخيرة (تشرين الثاني 2022)، ويبرز في ثلاث موضوعات رئيسية متقاطعة.
أولا، عند الإعلان عن أيّة نيّة إسرائيلية على تقديم (ولو ظاهريا) أي شكل من أشكال الاعتراف السياسي بالوجود الفلسطيني أو التفاوض و"المساومة" معه. انعكس هذا الأمر بشكل صريح ووصل حد الاحتدام والمواجهة المباشرة بين المعسكرين الصهيونيين خلال محادثات واتفاقيات أوسلو مطلع التسعينيات، كما وفي جميع المؤتمرات التي تلتها والهادفة إلى إعادة المحادثات بين الطرفين (العقبة 2003، انايوليس 2008). فعلى الرغم من أن اتفاقيات أوسلو تعكس إعادة صياغة للاستراتيجية الاستعمارية الإسرائيلية وليس تراجعها، كما وان منح السلطة الفلسطينية بعض أشكال الحكم الذاتي لا يدل على استقلالية فلسطينية إنما خلق جسم تابع وخاضع أمنيا وسياسيا (رغم التناقضات)، اعتبرها اليمين الصهيوني (وعلى رأسه القومية-الدينية) على أنها خيانة كبرى للمشروع الصهيوني، هاجمها بشراسة، وخرج منها قاتل رئيس حكومة الاحتلال اسحاق رابين.
ثانيا، يظهر هذا الصراع الصهيوني الداخلي بحدة غير مسبوقة عند تداول أي تراجع في السيطرة على الحيّز – أي أثناء إخلاء مستعمرات كما كان الحال في الانسحاب من غزة عام 2005 (خُطّة "فك الارتباط")، كما وفي قرارات المحكمة العليا المتعاقبة لإخلاء بؤر استيطانية المقامة على أراضي فلسطينية خاصة في الضفة الغربية. على الرغم من أن مثل هذه الإخلاءات عادة ما تكون محدودة، مؤقتة، أو مصحوبة بخطط الهادفة لتكثيف الاستيطان في مناطق أخرى، يُهاجم اليمين الصهيوني هذه القرارات بشراسة ويتضمنها اشتباكات مباشرة مع الشرطة والجيش، وفي بعض الحالات تتلوها عمليات "تدفيع الثمن" الإرهابية والتي عادة ما توجه ضد الفلسطينيين لتطال معسكرات وجنود الجيش الإسرائيلي.
ثالثا، يبرُز هذا التّوتر بين قطبي الطيف الصهيوني حول حدّة، سرعة وكثافة العنف الاستعماري. ينطبق هذا الظرف، مثلا، في أي من الحالات التي تقوم بها المؤسسة العسكرية منح الفلسطينيين بعض التسهيلات اليومية كالتنقل والعمل. على الرغم من أن هذه السياسات عادة ما تعمل وفق منطق "كبح التمرد" (counterinsurgency) ولمنفعة الاقتصاد الإسرائيلي بشكل أولي، عادة ما يتم محاربتها من قبل اليمين المتطرف. على سبيل المثال، وعقب إلغاء الجيش الإسرائيلي لحاجز حوارة عام 2009، شنّ أعضاء كنيست من اليمين وممثلي المستوطنات في الضفة الغربية حملة ضد القرار وصلت حد اتّهام وزير الدفاع آنذاك ايهود باراك على أنه "مُعاوِن للإرهاب". يظهر هذا الأمر جليا أيضا في الحالات التي تقوم بها الحكومة أو المحكمة الاسرائيليتين بتأجيل هدم تجمّعات فلسطينية الواقعة في مناطق "ج" لأسباب إجرائية، قانونية أو سياسية، كما هو الحال حاليا في قريتي سوسيا وخان الأحمر. على الرغم من أنه هنالك إجماع حول هدم هاتين القريتين بين جميع الأجسام السياسية والقانونية الإسرائيلية، إلا أن مسالة التّوقيت أدّت إلى نزاع حاد بين شقّي الطّيف الصهيوني، الأمر الذي تمثّل بتقديم الجمعية الاستيطانية "ريغافيم" (والتي أحد مؤسسيها هو وزير الاقتصاد الحالي بتسيلئيل سموتريتش) التماسا قضائيا للمحكمة العليا تطالب بها وضع حد لمماطلة الجيش والحكومة وتنفيذ الهدم بشكل فوري. ففي آذار هذا العام، وعُقب مصادقة المحكمة العليا على طلب الحكومة الإسرائيلية والقاضي بأن الزمن ليس مؤاتيا الآن لتنفيذ هدم قرية الخان الأحمر (بسبب الضغوط الدولية والعواقب القانونية المحتملة)، تم شن حملة شرسة ضد المحكمة العليا وتلاها خلاف جدي وتبادل اتهامات داخل الحكومة الحالية[4]. تنطبق هذه الديناميكية أيضا فيما يتعلق بسرعة وكثافة "العنف العقابي" الذي عادة ما يلي أعمال فلسطينية مقاومة. فسياسة هدم بيوت مُنفّذي العمليّات الفلسطينيين (وفي حالات معينة سحب إقامات وإبعاد أفراد العائلة) هي سياسة عقاب جماعي التي تم صقلها في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وإجازتها المحكمة العليا الإسرائيلية. لكن ما يثير حفيظة التّيار الصهيوني اليميني في هذه الحالات هو إمكانية الاستئناف على أمر الهدم من قبل أفراد العائلة أو مؤسسات المجتمع المدني (وإن عادة يتم رفضها من قبل المحكمة)، إضافة إلى الفترة الزمنية المستغرقة حتى يتم تطبيق الهدم فعليا. على سبيل المثال، فبعد تنفيذ المقدسي خيري علقم عملية في مستعمرة "نيفيه يعكوف" بداية العام الحالي، حدث صدام بين ايتمار بن-غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي الحالي، وبين غالي بهراف ميارا، المستشارة القانونية للحكومة، حول سرعة تنفيذ اغلاق بيت عائلة علقم. بينما أعلن بن-غفير خلال مؤتمر صحفي تم عقده في ليلة تنفيذ العمليّة عن قراره بالإغلاق الفوري لبيت عائلة علقم، اشترطت المستشارة القانونية للحكومة تقديم تقرير يشمل الحقائق التي تستدعي الإغلاق الفوري وعدم فسح المجال أمام العائلة للاستئناف على القرار، الأمر الذي جعل بن-غفير يشن حملة شرسة على المستشارة القانونية. من ناحيته، انضم يريف ليفين، وزير القضاء الحالي، الى الهجوم على المستشارة القانونية للحكومة بقوله "على ما يبدو ان مكتب المدّعي العام لا يحسب البعد الزمني، إنهم فوق الزمن، ولا يفهمون أنه إذا لم تتصرف بسرعة، فسوف تتلقى [الضربات] لاحقا". بالإضافة الى ذلك، أفصح بن-غفير في ذات المؤتمر الصحفي عن عقاب جماعي آخر وهو إصدار أمر لشرطة القدس بتسريع وتكثيف هدم البيوت الغير مرخصة شرقي القدس، حيث قال وبنبرة تهديدية "آمل أن لا يواجه هذا القرار أية صعوبات" في إشارة ضمنية إلى المستشارة القانونية.
من الجدير التأكيد هنا أن عملية صقل وقوننة هذه الأشكال من العنف الاستعماري تم إنتاجها على يد سلطات الاستعمار الصهيوني المختلفة ببنيتها الليبرالية. فعلى سبيل المثال، سياسة عدم الاعتراف بقرى وتجمعات فلسطينية الواقعة في مناطق "ج" في الضفة الغربية هي سياسة ممنهجة التي تقوم بها أجسام التخطيط في الجيش الإسرائيلي، والتي عن طريق منع تطوير أو توسع هذه البلدات وبالتوازي مع أعمال هدم متقطعة، تقضي إلى إنهاك السكان الفلسطينيين، وبالتالي تهجيرهم تدريجيا إلى داخل الجيوب المنفصلة والمكتظة في مناطق "أ" بشكل الذي يبدو "إراديا". في هذه الحالات عادة ما تقوم المحكمة العليا بتشريع هذه السياسة من خلال قبولها الاعتبارات التخطيطية والأمنية للمؤسسة العسكرية والقاضية برفض طلبات الفلسطينيين لترخيص مبانيهم أو مقترحاتهم لمخططات هيكلية بديلة. في سياق مماثل، فسياسات العقاب الجماعي – هدم البيوت، سحب هويات وتصاريح عمل، إبعاد، إغلاقات الخ – وتشريع بؤر استيطانية جديدة التي تعقب عمليّات فلسطينية مُقاومة، جميعها سياسات التي تحظى بإجماع مبدئي بين أجهزة الدولة الأمنية، السياسية والقضائية. الجديد إذا، وكما يشير النقاش أعلاه، هو كيفية تشكّل هذه السّياسات فيزيائيا: السّرعة، الكثافة، الحدّة والنّسق الذي بموجبهم يتم: تنفيذ إغلاق أو هدم بيوت عائلات مقاومين، هدم مبان وقرى "غير قانونية"، سحب هويّات وإبعاد، إغلاق مناطق وشل حركتها الاجتماعية والاقتصادية، تشريع وإنشاء بؤر استيطانيّة وغيرها. بناء على ذلك، يمكننا الادعاء أنه فيما تسعى اللّيبرالية الصّهيونية إلى إدارة محو "المسألة الفلسطينية" (جغرافيا وسياسيا) تدريجيا وبشكل محسوب وموزون، فإن اليمين الصهيوني يسعى الى حسمها بأسرع الطرق وبشكل نهائي، الأمر الذي ينعكس أيضا في اسم ومضمون المشروع السياسي ليتسلئيل سموتريتش – خطة الحسم!
لكن لهذا الصراع الفيزيائي-سياسي، ما بين الإدارة والحسم، أبعادا سياسية فارقة وعديدة. فالمنظومة الليبرالية تعمل ضمن ذاتية استعمارية (colonial subjectivity) التي ترى نفسها على أنها: أكثر "أخلاقية" (بدعة "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم") و"حضارية" (عقلانية، فصل السلطات، سيادة القانون)؛ تُصوّر التّوسع الاستعماري على أنه "نزاع" قانوني-سياسي حول السيادة وملكية الأرض؛ وتُدرج العنف الصّادر عنها تحت اضّطرارَيْ "الأمن" و "الدفاع عن الذات" في وجه "الإرهاب" الفلسطيني الذي لا يستند لأي شرعية قانونية أو أخلاقية. إن الإجراءات المركّبة، المتشعّبة، والبطيئة نسبيا لهذه المنظومة تتيح إعادة صياغة هذه الصورة الذاتيّة للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وعرض العنف الصادر عنها على أنه "أقل الشرور الممكنة" (وايزمان 2011)، "حضاري" و"قانوني": دفاعي، منضبط، يعمل وفق تسلسل القيادة، يميّز بين مقاتل ومدني، خاضع للرقابة و"الشفافية". بشكل خاص، تقوم المحكمة العليا الإسرائيلية بدور جوهري في استدامة هذه المنظومة وإعادة صقل ذاتيّتها المتخيّلة وذلك من خلال دور المعيارية – أي تعديل وتخفيف وطأة "العنف الفائض" ومحاكمة مرتكبيه وتصويرهم على أنهم استثناء ("تفاحة فاسدة") – الأمر الذي يوحي بوجود أدوات ضبط، رقابة، ومحاسبة. إن هذا الدور المعياري ليس موجها داخليا للمجتمع الاستعماري فحسب، بل وأيضا خارجيا لمؤسسات المجتمع الدولي. فعلى الرغم من رفض المنظومة القضائية الإسرائيلية القانون الدولي فيما يتعلق بعدم قانونية الاستيطان والعديد من الإجراءات القمعية، لكنها، ومن خلال محاولتاها موازنة وضبط العنف الاستعماري، تنفيذها للمساءلة القانونية (ولو بانحياز للعقلية الاستعمارية والأمنية الإسرائيلية)، واستعانتها انتقائيا ببعض القوانين والأعراف الدولية، تساهم بإظهار صورة سلطة قانونية مستقلة مشابهة لتلك في الدول الغربية المهيمنة، وبالتالي تحظى بمصداقية عالمية نسبية.
أما قوة الدفع الاستعمارية للتيار اليميني المتطرف فإنها مشحونة بذاتية استعمارية التي تعتمد على عصبيّة قومية-دينية وتعمل وفق زمن مسياني (بنيامين 1940): استدعاء الماضي التوراتي المتخيّل وتكثيفه في الحاضر نحو "الخلاص" و"استعادة أرض الميعاد" دون توانٍ[5]. فإن كانت المنظومة الليبرالية الصهيونية تُخضع الرّواية التّوراتية لسردية خطّية علمانية حداثية لتشريع سيطرتها على فلسطين وإقامة دولة حصرية، فإن تكثيف هذه الرواية على يد اليمين الصهيوني (وخاصة التيار القومي-الديني) يعتقها من قيودها العلمانية لتصبح حقاً (أو حتى فرضاً) إلهياً. بالتالي، فعندما تبدي المنظومة الليبرالية أيّة "تراجعات" عن المشروع الاستعماري أو محاولات لتخفيف عنفه "الفائض"، تتعمق أيضا نفسية الضحية لهذا التيار وتتضاعف لدرجة أنها، وللمفارقة، تقوم على تصوير الأجسام المعيارية للاستعمار الصهيوني على أنها "شريكة" في "الإرهاب" الفلسطيني وتأخير "الخلاص" المرجو. ليس من الغريب، إذًا، وبعد أن صعد اليمين الصهيوني المتطرف سدّة الحكم مؤخرا، باتت البنية الهيكلية والزمنية للمنظومة الاستعمارية الليبيرالية الهدف الأولي للحكومة الحالية، وبشكل خاص جهازها القضائي لما ينتجه من "غُبن"، حدود، كوابح وضوابط لـ"الحق الإلهي" في الاستعمار والمحو. فقانون "تقليص معيار المعقولية" الذي تم سنّه مؤخرا، ما هو إلا بداية الحملة لتفكيك الدور المعياري للسلطة القضائية الإسرائيلية، والذي يسعى إلى الحد من صلاحيات المحكمة العليا في تعديل أو إلغاء قرارات السلطة التشريعية من خلال منعها من تطبيق "معيار المعقولية". بالفعل، فإن معيار المعقولية هو أحد الأدوات القانونية (إلى جانب "معيار التناسبية") التي استخدمتها المحكمة العليا الإسرائيلية في رسم الحدود، الضوابط والتوازنات لسياسات العنف الاستعمارية التي سبق ذكرها، وبالتالي فإن تقليص هذا المعيار يُنذر بمرحلة جديدة من تسريع وتكثيف للعنف والتوسع الاستعماريين[6].
لكن ومن ناحية أخرى، فإن هذا القانون، كما بقية ترسانة خطط "الإصلاح القانوني" للتيار اليميني المتطرف، تعمل على زعزعة (واستبدال) الذاتية الليبرالية الاستعمارية، تجريدها من أقنعتها القيميّة والمنظومة الحاملة والحامية لها. فانفلات العنف الاستعماري وتكثيفه ضد الفلسطينيين يقوّض فكرة العنف "القانوني" و"الدفاعي"، الأمر الذي برز مؤخرا في عمليات إرهاب المستوطنين من حرق وتدمير لبلدة حوارة والذي لاقى تأييدا واسعا داخل الحكومة الحالية – كدعوة سموتريتش العلنية إلى "محو بلدة حوارة عن الوجود" – وما أثاره من قلق عميق لدى قيادة المعارضة بوصفها "فقدان للسيطرة"، "كارثة أمنية" و"تشويش تسلسل القيادة في الجيش". في نفس الوقت، فإن لهذه الذاتية الاستعمارية الغير مُهادنة وما تنتجه من تكثيف للعنف، أيضا أبعاد سياسية وقانونية على الساحة الدولية. فهذا التيار يكن العداء ويوجه الاتهامات المباشرة لأية من الدول الأجنبية أو والمؤسسات والمنظمات الدولية، لكونها تعتمد القانون الدولي و"حل الدولتين" (وإن كان على مستوى الخطاب وبانحياز للوضع "الاستثنائي" لإسرائيل) أو لتوفيرها أي شكل من المساعدات أو الدعم للفلسطينيين (مساعدات إنسانية، دعم مادي أو تقني للسلطة الفلسطينية). فإن هذا العداء الصريح والعلني والذي يرفض المناورة والمراوغة في المحافل الدولية والقانونية يثير مخاوف جدية لدى المعارضة الإسرائيلية بشأن تدهور العلاقات الدولية لإسرائيل، وخاصة مع حلفائها الاستراتيجيين كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي[7]. أما من الناحية القانونية، فإن تقليص الدور المعياري لجهاز القضائي الإسرائيلي سيؤدي أيضا إلى إضعاف دورها في حماية العنف الاستعماري ومرتكبيه على الصعيد الدولي، الأمر الذي انعكس جليا بإحدى الالتماسات للمحكمة العليا ضد قانون "تقليص معيار المعقولية" والتي تشير إلى خشية جدية لإمكانية تعرُّض أعضاء المؤسسة الأمنية الإسرائيلية للمحاكمة في المحكمة الجنائية الدولية ومحاكم دول أجنبية في حال تم تشريع هذا القانون.
نهاية، لا بد من الإشارة إلى أن هذا الاحتدام الفيزيائي-سياسي ليس بالأمر الجديد، إنما هو صراع تاريخي منذ بدايات الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، والتي تمثلت آنذاك في الصراع ما بين الصهيونية الاشتراكية (بقيادة بن-غوريون) والصهيونية التصحيحية (بقيادة جابوتينسكي). وعلى الرغم من تلازم العداء بين هذين التيارين تاريخيا، والذي وصل في بعض الأحيان إلى اقتتال مباشر (كحادثة سفينة التلينا)، إنما فيما يخص الفلسطينيين فإن هذه العلاقة شكلت "صراع أضداد" ومنحت المشروع الاستعماري حركته وديناميته التي عادة ما يتم وصفها بمصطلح "وحدة النقيض". لكن ما مكّن وجود "وحدة" لهذا "النقيض" هو هيمنة المنظومة العلمانية الليبرالية (أو الاشتراكية سابقا) والتي طالما احتوت وسخّرت (وفي بعض الأحيان قمعت) الاندفاع الاستعماري المضاد نحو توسيع التخم الاستعماري وضد العدو المشترك الخارجي – الفلسطيني أو العربي – وبما يتناسب مع قيمها ومصالحها السياسية، الاجتماعية، والاقتصادية. لكن اليوم، ومع صعود هيمنة اليمين المتطرف، فإن هذه المصفوفة التي تجيز "توحيد"، موازنة، وتحريك المشروع الاستعماري بين هذين التيارين، هي ذاتها تمر بعملية صهر وتمليس لسطحها، وعند منع الاحتكاك لا يبقى مكانا الا لتيار واحد، الأمر الذي ينذر بمرحلة اللا-عودة لهذه العلاقة وانحرافها نحو التنافر، لا بل والتصادم مع أحدهما الآخر. خاصة في هذه المرحلة الموشكة على إغلاق التخم الاستعماري شرقا (إحلال سيادة إسرائيلية على أجزاء كبيرة من الضفة الغربية)، فإن منطق المحو والعنف الاستعماري لا يتكثف فقط على الفلسطينيين، بل وينعطف ليعود إلى القلب الاستعماري، وليس فقط تجاه فلسطينيي الداخل وإنما أيضا ضد أية معارضة سياسية داخلية (وإن كانت ليست بذات الشدة والكثافة – حتى الآن!). إن هذا القلق "الوجودي" الذي يدفع التيار الليبيرالي الصهيوني للتصدي للحكومة الحالية بشراسة وبكل ما أوتي من قوة وإمكانات، إذ إن تعاظم التيار اليميني وقوة دفعه تسعى إلى زعزعة (وحتى محو) الذاتية الاستعمارية الليبرالية والمنظومة الحامية لها (القضاء)، الأمر الذي له أيضا تداعيات جمة على المجتمع الاستعماري في جميع مجالات الحياة – حقوق الفرد، التعليم، الصحة، الحيز العام، العمل، الاقتصاد الخ. إن هذا الانطواء للعنف الاستعماري على ذاته، وإن ما زال في بداياته، فإنه يذكّرنا بمقولة المفكر الثوري ايميه سيزير التي جاء فيها أن للعنف الاستعماري أثر الخذوف-المرتد (boomerang-effect):
ففي نهاية كل هذه المعاهدات التي تم انتهاكها، كل هذه الأكاذيب التي تم نشرها، كل هذه الحملات التأديبية التي تم التغاضي عنها، كل هؤلاء السجناء الذين تم تقييدهم و«استجوابهم»، كل هؤلاء الوطنيين الذين تم تعذيبهم، وفي نهاية كل هذه الغطرسة العنصريّة التي تم تشجيعها، كل هذا التبجح الذي تم إظهاره، سمٌ قد قُطِّرَ داخل شرايين أوروبا؛ فتمضي القارة قدماً باتجاه الوحشية، ببطء لكن بثبات.
ثم ذات يومٍ صافٍ، تستيقظ البرجوازية بالصدمة المروّعة المرتدّة: الغستابو مشغولون، تُملأ السجون، يقف المعذِّبون حول أدواتهم، يخترعون، يصقلون، يتناقشون.
هوامش:
[1]: في أدبيات الاستعمار-الاستيطاني يعد منطق المحو (logic of elimination) على أنه المنطق الأساس الذي يحدد علاقة المجتمعات الاستعمارية اتجاه الشعوب الأصلانية، والذي يأخذ أشكالا واستراتيجيات مختلفة ساعية لمحو السكان الأصلانيين (جغرافيا، سياسيا، ديموغرافيا، وثقافيا)، السيطرة على أراضيهم، واستبدالهم بمجتمع استعماري سيادي، كما كان الحال في الدول المعروفة اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية، نيوزيلندا، أستراليا، كندا وغيرها.
[2]: فيزياء-السياسة هو مصطلح استعمله المفكر جون بروتيفي (2001) في كتابه فيزياء السياسية: دولوز، دريدا والجسد (دار اثلون للنشر)، كمدخل لدراسة السياسة من منظور المادية-الجديدة (new-materialism) ونظرية التعقيد (complexity theory) مستندا إلى كتابات المفكرين الفرنسيين جيل دولوز وجاك دريدا. بإلهام من هذا النمط الفكري يستند التحليل في هذه المقالة إلى مصطلحات علمية من مجال الفيزياء بطريقة منتجة ومثمرة.
[3]: من الجدير التنويه إلى أنه بالنسبة لبعض التيارات اليمينية المتطرفة أن حدود ما يسمونه "أرض إسرائيل الكبرى" لا تقتصر على فلسطين التاريخية، وفي حالتها القصوى تمتد بين نهري النيل والفرات.
[4]: إن طلب الحكومة الأخير تأجيل هدم قرية الخان الأحمر تم في عهدة الحكومة الحالية والصدام الذي حصل داخل الحكومة كان بين الحزب الحاكم (الليكود) من جهة، والأحزاب القومية-الدينية ("عظمة-يهودية" و"الصهيونية-الدينية") من جهة أخرى. هذه الحالة أيضا تقتضي التوضيح بأن الفصل بين اليمين واليسار الصهيونيين هو فصل قسري بعض الشيء ويهدف للتبسيط، بحيث أن الواقع أكثر تعقيدا من ذلك، إذ كما يبين هذا المثال، فإن داخل تيار اليمين نفسه يوجد اطياف أقل حدة وأكثر "تعقلا" وإن كانت القوة الدافعة للتيار اليميني بالمجمل في تصاعد نحو التطرف الديني-السياسي.
[5]: العصبية هو مصطلح لابن خلدون والذي يشير إلى التضامن الحسي الجمعي والولاء القبلي أو القومي، والذي تم توظيفه من قبل المفكرين جيل دولوز وفيليكس غوتاري كقيمة أساسية للفاشية-الجديدة (neo-fascism) أو ما بعد الفاشية (post-fascism)، للمزيد انظر إلى فصل "البداوة: آلة الحرب" في كتاب الرأسمالية والانفصام: ألف هضبة (1980).
[6]: من المثير في هذا الصدد، أن جميع الأمثلة التي ذكرها يريف ليفين (وزير العدل الحالي و"مهندس" هذا القانون) في خطابه أمام الكنيست قبيل التصويت على القانون تتطرق إلى قضايا سياسية تتعلق بشكل مباشر بالفلسطينيين. وإن كان هذا الأمر يؤكد الادعاء أعلاه، هذا لا يعني أن القانون يستهدف الفلسطينيين حصريا، بل وله أهداف سياسية داخلية أخرى، أبرزها قضية استخدام المحكمة لهذا المعيار بإلغاء تعيين رئيس حزب "شاس" ارييه درعي تولي منصب وزير الداخلية في ظل إدانته بقضايا جنائية سابقة، الأمر التي تريد الحكومة الحالية إبطاله.
[7]: على سبيل المثال انظر التقرير الصادر عن معهد دراسات الأمن القومي (هرتسليا) تحت عنوان "تحذير استراتيجي: مستند خلفية – التحركات التشريعية في إسرائيل تشكل ضررا خطيرا للأمن القومي" (بالعبرية).
مصادر
-
ايال وايزمان (2011) أقل الشرور الممكنة: العنف الإنساني من أرندت إلى غزة، (لندن: فيرسو، 2011).
-
وولتر بنيامين (1940) "في مفهوم التاريخ".
-
ايميه سيزير (2013 [1950])، خطاب عن الاستعمار، (دار الفارابي 2013).