[اضغط هنا لقراءة الجزء الأول].
مع اقتراب صدور الجزء المكمّل للعبة "Elden Ring، خاتم الأقدمين"، أردت أن أستغل هذه الفرصة لإمعان النظر فيها، وفي سائر التحف الفنية التي أصدرتها شركة "FromSoftware". ستتناول هذه المقالة خاتم الأقدمين، بالإضافة إلى ثلاثية "Dark Souls" (الأرواح المظلمة)، ولعبة "Sekiro: Shadows Die Twice"، وذلك لاستخلاص بعض الأفكار السائرة في عروق الألعاب، والحكم المرتبطة بواقعنا المظلم، بالإضافة إلى الإضاءة على أهم ما جاء فيها من حيث القصة وجماليات التصميم وآلية اللعب؛ مثل الصعوبة وصقل التجربة ومركزية الموت بدلاً من تجاهله.
تخطي الحق والباطل
"السبيل أمامنا بسيط مبهج، نخطّه بالسيف والمخلب" - بلايذ، ظِل راني.
في مثل هذه الألعاب تتمركز البطولة ومصير الإقليم أو حتى البشرية كلها بين يدي شخصية مجهولة، وقد تنتمي الشخصية إلى فئة واسعة من أمثالها فلا يناديها أحد باسمها، في الجزء الأول من الأرواح المظلمة تلعب بدور غير الميت، وكذلك الأمر في خاتم الأقدمين أيضاً تنتمي لمجموعة تلقب بالملطخين كما ذكرنا في الجزء الأول من المقالة. في الجزء الثاني من الأرواح المظلمة تسمّى شخصيتك بحامل اللعنة وهو قد وصل إلى حالة التجويف الروحي ويسعى لكسر اللعنة، في الجزء الثالث تسمى غير المشتعل وسوف يتضح معنى الكلمة لاحقاً في المقالة. رغم أن الشخصية نكرة إلا أن الأرواح المظلمة وخاتم الأقدمين تتيح لها نهايات ترفع من شأنها.
مقابل الأدوار التي نلعبها هناك عشرات الشخصيات التي نتعرف إليها ونقاتلها، ولتلك الشخصيات ألقاب وقصص ترقى إلى الأساطير، مثال ذلك أسطورة أرتورياس في عالم الأرواح المظلمة. أرتورياس هو أحد فرسان السيد غوين، غوين هو سيد شعاع الشمس والذي تمكن برفقة نيتو، سيد الموت ومشعوذة أيزلايث والقزم الماكر[1]، وبمساعدة التنين سيث عديم الحراشف، وعدد هائل من جنود الأسياد المذكورين وفرسانهم، تمكنوا جميعاً من قتل التنانين الخالدة التي عاشت في زمان رمادي راكد، وبعدها بدأ عصر النار حيث بسط كل من الأسياد حكمه وتقاسموا العالم.
حُكُم العالم ليس سهلاً، وبالتأكيد اعتمد غوين على عدد من الملوك والفرسان والمخلوقات وذريته وبالطبع على المكائد والمؤامرات لاستمرار عصر النار، في بداية الجزء الأول من الأرواح المظلمة نسمع عن إحدى تلك الأساطير وهي أسطورة المصطفى غير الميت، نبوءة تقصّها علينا شخصية أوسكار الذي يساعدنا في الهرب من سجنٍ لغير الميتين، وتكمل المهمة الرئيسية إلى أن تكتشف حقيقة الأسطورة هذه، أو بالأحرى الكذبة فيها.
أسطورة أرتورياس أيضاً ليست سوى أسطورة بمعنى أنها ليست حقيقية، الأسطورة تحكي حكاية فارسٍ أوكله غوين بإيقاف امتداد الهاوية التي بدأت في مملكة أولَسيل، وذلك نظراً لخبرة الفارس في التعامل مع الهاوية والكائنات التي تفرزها، وبعد تلبيته للنداء وذهابه بصحبة ذئبه سِف تمكّن من القضاء على امتداد الهاوية وأنقذ الأميرة غسق وقد ضحّى بنفسه لإتمام المهمة.
أحداث هذه الأسطورة سبقت الوقت المعاصر في عالم اللعبة، بعد الحصول على قلادة مكسورة من الأميرة تسحبك يد كائن متوحش اسمه مانوس وهو أحد الوحوش في اللعبة، لتعود إلى ذلك الزمان السابق وتكتشف الحقيقة، مانوس كان رجلاً ذا روحٍ عظيمة وساحراً مميزاً، وقد كان في حوزته نصف قلادة تمثّل ذكرى محبوبٍ والسعادة المفقودة التي صحبته. نبشت العائلة الحاكمة في أولَسيل قبره وفقاً لوسوسة شخصية لها دوافعها الخاصة لكنهم احتفظوا بالقلادة لأنفسهم، فقدان القلادة أرّق روح مانوس ودفعها إلى حالة من الجنون فصار وحشاً يسعى بكل ما أوتي من قوة لاستعادتها، مما شكّل الهاوية ودفع رعايا المملكة إلى الجنون فانمسخوا هم أيضاً. عندما وصل أرتورياس لكبح الهاوية ومحاربة مانوس انهزم وانكسرت ذراعه، ولم تقتصر الهزيمة على جسده بل على عقله وروحه أيضاً، عندما أدرك أنه سيفقد عقله هو الآخر حمى ذئبه سِف بتعويذة سحرية ولم يتوقف عن محاربة رعايا المملكة المجانين، وهكذا نجده، قبل ثوانٍ من فقدان عقله، ليدعونا بما تبقى من وعيه للابتعاد فهو على وشك أن تبتلعه الهاوية، ويخبرنا عن ضرورة إيقافها من التمدد قبل أن يهاجمنا. الحقيقة إذاً هي أن اللاعب هو من قتل مانوس وأتم المهمة، وأن أرتورياس فقد عقله ومات أيضاً على يد اللاعب، لكن الأسطورة أعزت لأرتورياس شرف التضحية وإيقاف الكارثة.
قصة مانوس وأرتورياس لا تنتهي هنا، قصة مانوس لها تتمة في الجزء الثاني، لكن ما يهمنا هنا، في هذه المقالة وفي الزمن الحاضر من اللعبة نجد سِف فوق قبر فارسه يؤنسه ويحرسه، ولكن كي نكمل طريقنا علينا أن نكتسب القدرة على مواجهة الهاوية، فيحاول الذئب منعنا من فعل ذلك. يميّز الذئب اللاعب مما حصل سابقاً ويعوي متأسياً على سيده ربما، أو على حتمية المواجهة، فهو لا يسمح لك بتدنيس قبر أرتورياس ظاهرياً، وباطنياً يظن اللاعبون أنه يحاول منع الفرسان من السير في خطى سيده، أي أنه يحاول حمايتهم، وحمايتنا من فقدان عقلنا.
قصة أرتورياس وسِف خير مثال على تعقيد النوايا في هذه اللعبة، مع أنها لعبة صعبة وقتال كل هذه الشخصيات شاق إلا أن الدوافع ليست بسيطة يمكن تصنيفها إلى أسود وأبيض، أو إلى الباطل والحق، لم يكن أرتورياس راغباً بقتالنا لكنه فقد عقله، مانوس أيضاً لم يكنّ لنا ضغينة شخصية، بل لم يكنْ أصلاً في زماننا، وحتى المجانين في أولِسيل لم يكونوا أشراراً، وسِف أيضاً لا يحاول قتالنا لأنه على باطل ونحن على حق.
هذا التعقيد ليس محصوراً على هذه الشخصيات أو الأرواح المظلمة، في لعبة خاتم الأقدمين نقابل شخصية بلايذ وهو كائن بشري مستذئب أوكلت له مهمة حماية راني، راني ابنة ماريكا التي ذكرناها في الجزء الأول، وهي مؤهلة لأن تحل محلّها لكنها ترفض هذا الدور وتتآمر ضد الأرباب في عالمها، ومع ذلك لا يخونها بلايذ بل يساعدها في تحقيق طموحها، وعلى عكس أرتورياس نحن لا نجده قبل نهايته الحزينة بثوانٍ فحسب وإنما في بداية اللعبة تقريباً، ونتبادل معه الأحاديث ونرافقه في عدة مغامرات، ونكتشف أنه كان صديق راني منذ الطفولة وأنه مجبول على الوفاء لها، ثم نكتشف أن الجهة التي أوكلت له مهمة حماية راني جبلت في طينته شرط امتثال راني لما هو متوقع منها، لكن عندما تتمكن راني من التخلص من تلك الجهة تقع اللعنة عليه لأن الشرط انتفى وعليه الآن أن يخونها، أمر يرفضه كلياً ونجده يحاول بآخر ما بقي من إرادته الامتناع عن ذلك ونضطر إلى قتاله عندما تتمكن منه اللعنة.
اخترت هاتين القصتين لأثرهما وثقلهما المعنوي والرمزي، ولأن العبر تتخطى الاستنتاج عن تخطي الحق والباطل، ففي القصتين هناك أطرافٌ تتآمر وتتلاعب بمصير الشخصيات، ويمكن القول إن تلك القوى على باطل، لكن ولو صح ذاك الرد فهو لا ينفي أن هذه الشخصيات ليست شريرة ولم يدفعها لقتالك حقد أو طمع، والعكس صحيح فأنت لا تقاتلها لأنك حانق عليها، إلا أن القتال كتب عليكما. على هذا المستوى الفردي تتلاقى السيوف بين رجال يصعب تصنيفهم على ميزان الحق والباطل. إن ظننت أن الفانتازيا تحاول تعقيد الأمور لغايات تراجيدية أدعوك للتفكر بكل الفتن الواقعية، المعاصرة منها والتاريخية، التي جعلت الإخوة يقتلون بعضهم، وعن صعوبة التفريق بين الحق والباطل على مستوى الأفراد، بين المواطن الغيور والعبد المأمور.
بين الظلام والظلال
"عندما يتعفن عالمنا، علينا أن نحرقه من أجل عالمٍ جديد" - المستوطن الكورفيني
لو صعدنا في هرمية الأدوار لنمسك بالطغاة نكتشف أن الخدعة ليست بإزاحة الباطل للأعلى، بل ما نجده هناك هو معضلات على مستوى إقليمي (سيكيرو) أو عالمي (الأرواح المظلمة) أو كوني (خاتم الأقدمين). الحلول الممكنة للمعضلات تعرضها النهايات المختلفة، ولفهمها علينا أن ندرك تبدّل الرمزيات في هذه القصص.
في العادة يرتبط الحق والباطل بالنور والظلام أو الأبيض والأسود، ثنائية لا يخلو أي دين أو فلسفة من المرور عليها أو التمحور حولها، لكن عالم الأرواح المظلمة يتعامل مع الثنائية بربط مفهوم الظلام وهذه الأرواح المظلمة بالبشرية بينما يرتبط النار والنور بالسادة المذكورين، وتبدأ القصة باشتعال نارٍ جلبت التباين وأنهت رمادية العالم الذي حكمه التنانين. هذا التباين بين النور والظلام يعني أيضاً تبايناً بين الحياة والموت، لكن كانت النار محركه، والتي تحتاج وقوداً لتستعر.
نبوءة المصطفى غير الميت تدعو اللاعب لأن يمنع خمود تلك الشعلة كي يستمر عصر النار، لكن بدلاً من أن نسلك طريقاً واضحاً نكتشف أن الوقود المطلوب ليستمر عصر النار هو أرواح البشر، وخصوصاً روح بطلٍ يضحي بنفسه، كما أن مشعوذة أيزلايث قد حاولت محاكاة النار بإيقاد نارٍ مشابهة لكنها تحولت لنار الفوضى وأنجبت عرقاً من العفاريت صار لهم مملكة وثقافة خاصة بهم. كما يتضح أن الازدهار في عصر النار لم يعتمد على العدل والحكم الرشيد بل على القوة والمؤامرات والخرافات، إذ نحّى غوين البشر الذين ساعدوه في الحرب ضد التنانين وتركهم في مدينة على طرف العالم بعيداً عن الجميع، محاطةٌ بجبالٍ وتنين، وسلّم أمرها لابنته التي وعدها بأن يعود ثم نكث وعده.
بناء على ما سبق، يبدو أن غوين هو الشرير في القصة. دليل آخر هو أنه الوحش الأخير في الجزء الأول من اللعبة، لكن يتبين لنا أنه قد ضحّى بنفسه وحرقها ليمنع الشعلة من الانطفاء، أي لا يمكن أن نسقط عليه مقتنا لجشع الساسة ببساطة. عندما نجده أخيراً نكتشف أنه يعيش في كهفٍ دون مُلكٍ أو جاه، وهذا بعد أن نزور مملكة عظيمة كان يمكنه الاستقرار فيها بدلاً من المنقلب الكئيب هذا، كما نسمع موسيقى تبعث على الشجن بدلاً من الموسيقى الملحمية التي نسمعها عند مواجهة أغلب الوحوش. ولو أردنا إنصافه، يمكن القول إنه كان شاهداً على العالم قبل التباين عندما حكمته التنانين وهو مستعد لفعل أي شيء والتضحية بكل شيء حتى لا يعود العالم إلى تلك الحالة.
إذا لبّينا نداءه نحرق أنفسنا ونسمح لوهج النار بالاستمرار، وإن لم نفعل، ينتهي عصر النار ويبدأ عصر الظلام، وتُنَصّب شخصية اللاعب سيد الظلام، هذه النهاية المظلمة التي لو اعتمدنا على الرمزية المعهودة لعددناها النهاية الشريرة أو السيئة، لكنها ليست كذلك بالضرورة، ولا هي النهاية الخيّرة بالضرورة لأن القصة لا تعطيك الكثير من التفاصيل حول هذا العصر. جلّ ما نعرفه هو أنه العصر الذي يحكم فيه البشر أنفسهم بدلاً من أن يحكمهم السادة المذكورون، ولا نعلم بتاتاً ما إن كان ذلك يعني تحسناً في حال العالم أم انتكاساً.
في الأجزاء التالية من اللعبة نتأكد من وجود حلقة متكررة عبر الزمن يتوارد فيها الأبطال على الشعلة الأصلية ويضحون بأنفسهم كل حين، ونرى أثر تلك التضحيات المتتالية في عالم أكثر كآبةً مما ألفيناه في الجزء الأول، إذ إن الإطالة في أمد عصر النار يتحدى الطبيعة التي تحكم على النار بالانطفاء بعد حين، وهذه الإطالة تصبح عبئاً يرفضه الأبطال لاحقاً، ولذلك تخف حدة المعضلة في الجزء الثالث، عند التضحية فيه نلاحظ أن النار ضعيفة ويحيطها العالم في حالته المزرية التي خلطت بين الأزمنة والأمكنة، وكأنه ينكمش على نفسه. حتى أولئك العفاريت الموشكون على الانقراض، تحول الكثير منهم إلى حجارة، وعندما نواجه آخر ملوكهم نجده في حالة يرثى لها محاطاً بجثث قومه.
هناك نهايات إضافية في الجزء الثالث تدل على أن البشرية حاولت التخلص من الحلقة وابتكرت حلولاً مختلفة، مثل سلب الشعلة وتقبّل ما حصل من تجويف روحي، لكنها قد لا تختلف جذرياً عن عصر الظلام، كما أنها مرتبطة بنفس العقل المدبّر الذي يحثّك على إخماد النار في الجزء الأول. وإن اخترنا عصر الظلام، تخبرنا إحدى الشخصيات بأنه لن يدوم إلى الأبد وأن النار ستشتعل مستقبلاً من جديد، أي أننا نسمح للحلقة الطبيعية بالتحرر والدوران مجدداً.
نهايات خاتم الأقدمين مختلفة لكنها تشبه نهايات الأرواح المظلمة من باب التحكم بمصير العالم؛ العالم كما نجده مليء بالآفات ويخلو من العدل، ومع أن مهمتنا الأصلية هي في تقلّد الخاتم وأن نعيد الحكم بيد النظام الذهبي الذي نشأ على يد ماريكا نيابةً عن "الإرادة العظمى"، لكنّ ماريكا بنفسها كسرت الخاتم، ونشبت بعد تكسيره معارك بين أنصاف الأرباب الذين كان من الممكن أن يرثوا ممكلتها، لكن المعارك انتهت بينهم دون نصر واضح لأي منهم. النهايات إذاً ترتبط بمساعيهم المختلفة نحو السيطرة واتباع قوى كونية تختلف عن "الإرادة العظمى".
الاختلاف عن الأرواح المظلمة هو في إضافة نهايات تغيّر وجه العالم بشكل جذري، مثلاً هناك نهاية سيد اللهب والتي تحرق الأخضر واليابس وتوحّد كل شيء بنارٍ عظيمة تمحو التباين، وهناك نهاية تلعن الجميع بلعنةٍ تلاحقهم إلى ولد الولد، ويمكننا اتباع طريق علّامة دَرَس النظام الذهبي وكشف عن شوائبه مما يساعدنا في الحكم عبر تحسينه بدلاً من إكمال الحكم كما كان، وأخيراً هناك نهاية النجوم التي تستحق وقفة سريعة.
في عصر النجوم نتبع سلسلة أوامرٍ من راني التي أوكل بلايذ بمهمة حمايتها على شرط أن تتقلد المنصب مكان ماريكا، لكنها تتمرد كلياً على عالمها، فهي تسرق الموت الذي نفته ماريكا كي تفتك بأحد الأرباب، وفي التزامن مع تلك الجريمة تضحّي بجسدها كي تتخلص من الدور المقدّر لها وتعيش في دمية باحثة عن طريقة لقتل الطرف الذي ينوب عن الإرادة العظمى.
تلخص راني فكرها عندما تصف لنا النظام التي ستشرف عليه، في نظرها يجب على هذا النظام أن يبتعد عن الرعايا كلياً، ولذلك ستغادر هي بنفسها الكوكب، وقد يفهم ضمنياً أن ذلك يمنع عبث الرعايا بالنظام ويؤخذ عند الكثير من اللاعبين بأنه يتضمن أيضاً عدم توغل النظام بحياتهم، وهي مقتنعة بذلك إلى حد التضحية بجسدها، وبأعز رفاقها وبمستقبلها الذي يترك وراءه كل شيء، أي أنها لا تلهث وراء الحكم كما أنها تصف رحلتها خارجاً بأنها رحلة إلى الشك والخوف والوحدة.
هذا الظلام والشك يشبه كثيراً نهاية عصر الظلام، وبغض النظر عن ارتباط سردي يمكننا رؤية الارتباط الرمزي، ففي النهايتين نجد تخليصاً للعالم من حكم القوى العظمى وأن ذلك لا يعد بالسعادة لكنه على الأقل يرفض استمرار حلقة الظلم والشوائب التي تتمكن أخيراً حتى من أفضل الأنظمة وأقواها.
ينصّ أحد الأمثال في عالمنا على أن "تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام ألف مرة" وفي المقابل ورد عن جورج أر أر مارتن في سلسلة الثلج والنار مقولة تقول "اللهب الأكثر وهجاً يترك الظل الأكثر سواداً"، وهاتان الفكرتان نجدهما في النهايات الممكنة بتناقضاتها أو ربما بتكاملاتها؛ الخير المطلق والشر المطلق ليسا واضحان ومنفصلان حتى لو وددنا ذلك، وهذا الكلام لا يتعارض حتى مع العقيدة الإسلامية عندما نتذكر بأن إبليس ليس نداً بأي شكل لله عز وجل، فهو مخلوق فانٍ شأنه شأن كل المخلوقات.
بهذا، تعرض علينا القصص التراجيدية المذكورة ونهاياتها المحتملة[2] معضلة تختلف عن معضلة الشر، وكما أجبرتنا الألعاب وفق تصميمها على الإصرار في وجه الموت وتقبّله، تجبرنا على التفكّر بدورات الطبيعة وانتهاء صلاحية أقوم الأنظمة وأقواها مع الزمن، كما تجبرنا على تقبّل حتمية الفناء نفسه وأن كل المخلوقات في حالة انحدار وبحاجة إلى تجديد، وهذا ينطبق على الأفكار والتنظيمات. هكذا يتسق المستوى العلوي مع المستوى الفردي في التفكير بالمعضلات خارج ثنائية الحق والباطل.
البطل بصفته فدائياً لا مفدياً
"هذه الأرض هي كل شيء.. أفديها ولو ببشريتي" - غينيشيرو الأشيناوي
في لعبة سيكيرو نلعب بشخصية محددة على عكس الشخصيات المجهولة في الألعاب السابقة، وهي شخصية شينوبي (نينجا) وجده شينوبي آخر مخضرم لقبه البومة في ساحة معركة طفلاً وآواه وعلمه فنون القتال، ثم وكّله بمهمة حماية السيد كورو مهما كلّف ذلك. "سيكيرو" هو لقب يختصر وصف "الذئب ذو الذراع الواحدة".
ومع أن لعبة سيكيرو تعطيك شخصية متفردة على عكس الأرواح المظلمة وخاتم الأقدمين، إلا أن مهمتها الرئيسية هي خدمة السيد كورو وليس تحقيق هدفٍ شخصي. إذ تتمحور النهايات في سيكيرو حول تلبية مسعى سيده الصغير عمراً، أي أن أكثر لعبة تعرّف الشخصية هي أيضاً أقل لعبة تعطي الشخصية مكانةً في مصير عالمها.
تقع أحداث لعبة سيكيرو على أرض أشينا في حقبة المقاطعات المتحاربة، وتدور الأحداث حول عشيرة أشينا التي قامت بثورة ناجحة قبل عشرين سنة وتمكنت من حكم منطقتها تحت قيادة إشّين الذي صار طاعناً في السن عندما تبدأ اللعبة. بعد مرور الوقت، ضعفت قدرة العشيرة على الدفاع عن أرضها وتعرضت لهجمة بالكاد استطاعت ردعها، مما دفع غينيشيرو، وهو حفيد إشّين بالتبني، إلى السعي وراء أي نوع من القوة ليدافع عن أرضه.
غينيشيرو هو أيضاً من الشخصيات التراجيدية التي يصعب علينا لومها، فهو لا يسعى وراء الحكم والسلطة وحافزه الرئيسي هو الدفاع عن أرضه، عندما نهزمه في ثاني مواجهة معه يعبّر عن تلك النية وعن استعداده لارتكاب أي هرطقة وكسب أي قدرة خارقة ليدافع عن أرضه. المواجهة الأولى حصلت عندما خطف السيد الصغير كورو، وذلك سعياً لنيل قدرات الخلود التي يستطيع كورو أن يمنحها لأي شخص. إلا أن كورو يرفض منحها لغينيشيرو لأنه يؤمن بإخلاص حارسه سيكيرو، فهو من ضحّى قبل سنوات ليدافع عن سيده ولذلك وهبه نعمة الخلود.
النعمة التي يسعى وراءها غينيشيرو أيضاً مطمع "البومة" الذي ربّى سيكيرو وعلّمه فنون القتال، هناك نهاية مبكرة تتحقق إذا قررت خيانة السيد كورو وإطاعة الشينوبي البومة، لكن بدلاً من أن تنال خلوداً وجاهاً تتحول فيها إلى شيطان الكراهية.
سائر النهايات كلها تتفق على طاعة كورو وتختلف في السبيل إلى ذلك، فقد استنتج السيد كورو أن الخلود نقمة تجلب السقم على الرجال أو ما يعرف بمرض عفن التنين، كما أنها نقمة تخالف الطبيعة ويجب أن يتخلص منها بغض النظر عما يحصل في السياسة ومصير أرضه، الخيار هو بين أن يضحّي كورو بنفسه لتموت النعمة معه أو أن تضحي بنفسك نيابة عنه، أو أن تحضّر حلاً سحرياً يعيده إلى جنينٍ دون الحاجة لأن يموت أو تموت.
إذاً، في سبيل الحصول على دواء داء دوام الحال والوصول إلى نهايات لا تحولنا إلى شياطين الكراهية نخوض تجربة لعبة سيكيرو بأكملها. تقول شخصية سيكيرو القليل لكنها تفعل الكثير لتخدم سيدها، وتموت المرة تلو المرة. وفي دليلٍ آخر على أن الألعاب تجبل الإصرار في تحدي الموت يعلّق كورو على هذه الحالة من الموت والبعث بشكل مباشر ويسألك عن عدد المرات التي متَّ فيها، بعد أن تعدت العشرات أو ربما المئات من المرات.
بهذا، تقدم لنا سيكيرو تحفة فنية دون أن تجعل من البطل رجلاً خارقاً أو حتى بطلاً معاصراً يسعى لتحقيق طموحه الشخصي، سيكيرو مستعد لأن يفدي سيده بكل شيء وهذه الدرجة من التضحية تندر في عصرنا الفرداني، لكن ربما سوء الأحوال الذي نشكو منه هو نابع من الأنانية المفرطة التي صارت سمة جمعية. لا تنفرد لعبة سيكيرو بفكرة البطل الذي يضحي بنفسه، لكنها حتماً تنفرد ببطل لا يفكر بشيء سوى بالتضحية بنفسه من أجل غيره، أو بثلاثة أبطال من هذا الطراز، سيكيرو وكورو وغينيشيرو.
هوامش:
[1]: الكلمة بالإنجليزية هي "Furtive Pygmy"، والقزم الماكر هو الترجمة الحرفية، لكن تجب الإشارة إلى أن الأسياد الثلاثة عمالقة نسبة للبشر مما قد يعني أنه قزم بالنسبة لهم لكنه ليس قزماً بالمعنى الحرفي. الأدلة على ذلك تشمل كونها شخصية يُقصد بها الأصل للبشر أنفسهم، وفي عالم اللعبة هناك عمالقة بالمعنى الحرفي وهم أكبر حجماً من الأسياد الثلاثة.
[2]: النهايات المحتملة في الألعاب ليست تماماً مثل النهايات المفتوحة في الروايات، النهاية المفتوحة تترك المجال للتفكير بما حصل، لكن الألعاب تعطيك القرار في اختيارها، وبهذا في نظري تفوق للألعاب على الروايات فهي تسمح للمتلقي بلعب دورٍ منغمسٍ أكثر في تشكيلها.