[روبن دي. جي. كيلي هو أستاذ كرسي "غاري بي ناش" في التاريخ الأميركي في جامعة "يو سي إل آي" ومحرر مساهم في "بوسطن ريفيو". من كتبه "أحلام الحرية: خيال السود الجذري"].
أشعر بالحيرة، كما شعرت في العام 2016، إزاء استمرار هذا العدد الكبير من الليبراليين بالإحساس بالصدمة من فوز ترامب- ولماذا، في مساعيهم لتشريح ما حصل، لا يستطيعون تجاوز دهشتهم بأنه يمكن لهذا العدد الكبير من الناس أن يدعموا بدون تفكير (بشكل أعمى) فاشيا فاسدا، كاذبا، يروج للعنصرية، وكراهية النساء، وكراهية الأجانب، والتمييز ضد المعوقين وما إلى ذلك، فيما هو يخفي أجندته المعادية للعمال، والمعادية للأرض، والداعمة للشركات الكبرى خلف حجاب من القومية البيضاء والوعود السلطوية بأن "ترامب سوف يصلح الأمر".
ولسنا بحاجة لإضاعة الوقت في محاولة تحليل الفروقات بين الانتخابات الثلاث الماضية. ففي الثلاث، هو ربح- وخسر- بأعداد تاريخية من الأصوات. وكانت الرسالة واضحة منذ العام 2016، حين، وعلى الرغم من خسارة ترامب للتصويت الشعبي أمام هيلاري كلينتون، إلا أنه فاز بالمجمع الانتخابي بنحو ثلاثة وستين مليون صوت، أي أقل بثلاثة ملايين مما حصل عليه أوباما في 2012. وخسر ترامب في 2020، إلا أنه حصل على أربعة وسبعين مليون صوت، وهو ثاني أكبر مجموع في تاريخ الولايات المتحدة. وبالنسبة لمرشح يشغل المنصب ترأس بشكل كارثي بدايات وباء "كوفيد"، فإنه كان يتعين على ذلك الرقم المذهل من الأصوات، أن ينبئنا بشيء. وإذا كان صادقين، علينا الاعتراف بأن جو بايدن يدين بمعظم فوزه للانتفاضات ضد عنف الشرطة التي حوّلت، بشكل مؤقت، الرأي العام باتجاه وعي أكبر إزاء التعسف العرقي وقدمت للديمقراطيين إقبالا تاريخيا غير مستحق. وعلى الرغم من أن حملة بايدن نأت بنفسها بقوة عن "حياة السود تهم" وعن المطالب بخفض تمويل الشرطة، إلا أنها استفادت من الإحساس بأنه تتعين معالجة الظلم العرقي وأن الليبراليين هم الأنسب لمعالجته.
مع ذلك، إلا أنه وفي الانتخابات الثلاثة، استمر الرجال والنساء من البيض باختيار ترامب بغالبية ساحقة. (على الرغم من أنه كان هناك أمل أنه في هذه المرة، فإن قضية الإجهاض سوف تدفع غالبية من النساء البيض للتصويت لهاريس، إلا أن 53 في المئة منهن صوتن لترامب، أي أقل باثنين بالمئة فقط من 2020). والتحول الديموغرافي بين ناخبي 2024 الذي كثر التباهي به لم يكن على ذلك القدر من الأهمية. صحيح، استقطب ترامب هذه المرة عددا أكبر من الرجال السود، ولكن نحو 77 بالمئة من الرجال السود صوتوا لهاريس، وبالتالي فإن العنوان الصادم "لماذا صوت الرجال السود لترامب"، هو مضلل. نعم، ارتفع تأييد اللاتينيين لترامب، لكن يتعين تفصيل تلك الفئة السكانية؛ فهذه فئة ديموغرافية متنوعة لأقصى حد، تاريخها السياسي وأصولها الوطنية وما شابه مختلفة. ويجب ألا نصاب بالصدمة لأن العديد من الرجال من الطبقة العاملة، لاسيما رجال الطبقة العاملة من غير البيض، لم يصوتوا لهاريس. وكيانغا-ياماتا تايلور محقة في إشارتها إلى تعالي الديمقراطيين عبر إيحائهم بأن التمييز الجنسي ضد المرأة وحده يفسّر سبب انقلاب جزء صغير من الرجال السود واللاتينيين نحو ترامب، في حين أن التشرد، والجوع، والإيجارات، والديون الشخصية، وانعدام الأمان الشامل كانت كلها في ارتفاع. وتشرح عبر "ديموكراسي ناو" أن الديموقراطيين فشلوا في "التقاط ما يحصل فعليا على الأرض- والذي لا يقاس فحسب بانخفاض نسبة البطالة التاريخية الذي تحدث عنه بايدن وهاريس أو بالنسب التاريخية لانخفاض الفقر."
لقد فشل الحزب الديموقراطي- مجددا- لأنه أدار ظهره للعمال، مختارا عوضا عنهم أن يلتفت إلى اليمين: توظيف ليز وديك تشيني، اقتباس كبير موظفي ترامب السابق جون كيلي، والتفاخر بعدد المصادقات الجمهورية التي حصلت عليها هاريس عوضا عن خططها لانتشال 38 مليون أميركي من الفقر. وروجت الحملة لقوة الاقتصاد في ولاية بايدن، إلا أنها تقاعست عن ذكر واقع بأنه لم يتبين أن الفوائد وصلت إلى شرائح واسعة من الطبقة العاملة. بدلا من ذلك، حسّن ملايين العمال أوضاعهم بالطريقة التقليدية القديمة: عبر الإضرابات والتفاوض الجماعي. وتمكن "اتحاد عمال السيارات"، وعمال "يو بي إس"، وعمال تفريغ السفن والمستودعات، والعاملين في الرعاية الطبية، وتقنيو "بوينغ"، وصانعو القهوة والندل في "ستارباكس"، وغيرهم من الفوز بمكاسب بارزة. بالنسبة للبعض، فإن تأييد بايدن العلني لاتحادات العمال ضمن له موقعه على أنه الرئيس الأكثر تأييدا للعمال منذ فرانكلين روزفلت. ربما، ولكن التحدي ليس صعبا فعليا. خلال حملته قال إنه سيرفع الحد الأدنى للدخل الاتحادي من 7.25 دولار إلى 15 دولار، ولكن، وما أن تم انتخابه، قام بتأجيل الموضوع بسرية في تسوية مع الجمهوريين، مختارا عوضا عن ذلك إصدار مرسوم تنفيذي رئاسي برفع رواتب المقاولين الاتحاديين.
صحيح أن الحركة "غير الملتزمة"، والتصويت الاحتجاجي المناهض للحرب بشكل عام، كانت تفتقر للأرقام الأولية لتغيير نتائج الانتخابات. ولكن ليس من المبالغة النقاش بأن تأييد إدارة بايدن- هاريس غير المشروط لإسرائيل كلّف الديموقراطيين الانتخابات بقدر ما فعل تخليهم عن الطبقة العاملة. في الواقع، فإن القضيتين مرتبطتان. كان يمكن للإدارة أن تستخدم الثمانية عشر مليار دولار التي وهبتها لإسرائيل كمساعدات عسكرية لعملياتها في غزة في سنتها الأولى فحسب، وأن تعيد توجيهها نحو حاجات العمال الذين يعانون. إن 18 مليار دولار توازي نحو ربع الميزانية السنوية لوزارة الإسكان والتنمية و16 بالمئة من موازنة "برنامج المساعدة الغذائية التكميلية" الفدرالي. وكان حتى بإمكانهم تقليص الموازنة العسكرية أكثر، والتي بلغت للعام المالي أكثر بقليل من 824 مليار دولار. بالإضافة إلى ذلك، كان يمكن انقاذ عشرات الآلاف من الأرواح الفلسطينية، وتجنيب معظم أراضي غزة وبناها التحتية ضررا لا يمكن إصلاحه، ولم يكن التصعيد نحو حرب إقليمية في لبنان وإيران قد حدث- وهو التي مازالت نتائجه غير محددة بالنسبة للميزانية الاتحادية.
بالطبع، سيقول المعترضون أن اللوبي الإسرائيلي، لاسيما "آيباك"، لن تسمح بذلك. لكن ولاء الديموقراطيين لإسرائيل ليس نابعا من الخوف، كما أنه ليس مجرد مسألة حساب بارد للأصوات الانتخابية. بل هو توجه راسخ في الإيديولوجية. وحدها الإيديولوجية يمكن أن تفسر سبب امتناع إدارة بايدن- هاريس عن توجيه الممثلة في الأمم المتحدة ليندا توماس-غرينفيلد للتوقف عن توفير الغطاء للمذبحة الإجرامية الإسرائيلية، ودعم قرار مجلس الأمن الداعي لوقف فوري لإطلاق النار. وليست الأيديولوجية وحدها ما تفسر سبب امتناع الإدارة والكونغرس عن الالتزام بقوانينها- وخاصة "قانون مراقبة تصدير الأسلحة وقانون المساعدة الخارجية"، الذي يحظر استخدام أسلحة أميركية في أراض محتلة وارسال سلاح أو مساعدات لدولة "تنخرط في نمط ثابت من الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان المعترف بها عالميا"- والتوقف عن دعم الجيش الإسرائيلي.
وفي حين أن المرشح ترامب شجّع نتنياهو على "إنهاء المهمة" في غزة، لا تندهشوا إذا "فاوض" الرئيس ترامب على اتفاق سريع لوقف النار. (قام ريغان بحيلة مشابهة حين ضمن عودة الرهائن الأميركيين من إيران في اليوم ذاته لتنصيبه رئيسا). ويمكن لصفقة مماثلة أن تثبت شعار حملة ترامب بأنه وحده القادر على إصلاح الأمور، وأن يقوي صلاته مع أصدقائه من الطبقة الحاكمة في دول الخليج، وأن يسمح لحزب الليكود ومؤيديه من المستوطنين المهوسين بأن يضموا غزة، جزئيا أو كليا، والاستمرار في عملية ترحيل السكان غير المشروعة بذريعة "إعادة الإعمار". ففي النهاية، لقد قامت إدارة بايدن- هاريس والديموقراطيون أصلا بإنجاز كل ما يلزم "لإنهاء المهمة". أصبحت غزة عمليا غير صالحة للسكن. وحين نحتسب الأمراض، والمجاعة، والقصور في الرعاية الصحية للمصابين، وأعداد الذين تحت الردم، ستكون حصيلة القتلى الفعلية أعلى بمرات من الحصيلة الرسمية. وبما أن نحو ثلاثة أرباع الضحايا هم من النساء والأطفال، فإن التحالف الأميركي- الإسرائيلي سيكون قد نجح، قبل وقت طويل من تولي ترامب للسلطة، في التحييد المؤقت لما يسميه الساسة الإسرائيليون "التهديد الديموغرافي الفلسطيني".
تبيّن انتخابات 2024 تحولا نحو اليمين على امتداد البلاد. نراه في انتخابات مجلس الشيوخ، وسيطرة اليمين على المجالس التشريعية للولايات (مع أنه هنا، أدى التلاعب في تقسيم الدوائر الانتخابية دورا أساسيا)، وفي بعض تدابير الاقتراع الناجحة في الولايات، باستثناء الحق في الإجهاض. ولكن يمكن تفسير جزء من هذا التحول من خلال حذف الناخبين، ومعارضة عامة لشاغلي المناصب من النواب الحاليين، واستياء لدى الطبقة العاملة يتم التعبير عنه من خلال انخفاض نسبة الإقبال. وأزعم أيضا بأن أحد الأسباب الرئيسية لقيام هذه النسبة المرتفعة من الطبقة العاملة بالتصويت لترامب يتعلق بما نسميه نحن، الماركسيون القدامى، بالوعي الطبقي. وقد ميّز ماركس بين طبقة "بذاتها" وبين طبقة "من أجل ذاتها". الأولى تدلّ على المكانة، علاقة المرء بوسائل الإنتاج، البقاء، العيش. الثانية تؤشر على التضامن- التفكير كطبقة، الاعتراف بأن جميع العمال، بغض النظر عن العرق، والجنس، والقدرة، والجنسية، ووضع المواطنة، والدين، هم رفاقك. مع تعرض فكرة التضامن لهجمة متواصلة على مدى عقود، يصبح من المستحيل على الطبقة أن تدرك مصالحها المشتركة أو الدفاع عن آخرين ربما لا تكون مصالحهم متطابقة معها.
بالتالي، أنا أقل اهتماما في تحليل "ما بعد الحدث" لهذه الانتخابات وتعديل مناورات الديموقراطيين مما إني أسعى لفهم كيفية بناء حركة – ليس كرد فعل على ترامب، بل نحو سلطة العمال، واقتصاد عادل، وعدالة انجابية، وحرية الكوير والمتحولين جنسيا، وإنهاء العنصرية والنظام الأبوي والحرب- في فلسطين، والسودان، والكونغو، وهايتي، وغيرها، وفي شوارعنا حيث هي متخفية كحرب على الجريمة، وعند حدودنا متخفية كأمن، وعلى الكوكب نتيجة لخمسة قرون من الاستخراجات الاستعمارية والرأسمالية. علينا إعادة إحياء فكرة التضامن، ويتطلب ذلك إعادة إحياء السياسات الطبقية: ليس سياسة تتنصل من العنصرية وكراهية النساء التي تسود الحياة الأميركية بل سياسة تواجهها مباشرة. إنه من الخطأ الظن أن دعم البيض من أبناء الطبقة العاملة لترامب يمكن أن يختزل بالعنصرية وكراهية النساء أو "الوعي الخاطئ" الذي حل محل جراح الطبقة. كما كتبت في 2016، لا نملك رفاهية تحمل استبعاد:
المظالم الاقتصادية الحقيقية جدا للبيض من الطبقة العاملة. ليست مسألة استياء في مواجهة العنصرية أو التمييز الجنسي مقابل الخوف. بل أن العنصرية والمخاوف الطبقية وأيديولوجيات الجندرة السائدة تعمل معا، بشكل لا يتجزأ. الرجال البيض من الطبقة العاملة يرون معاناتهم من خلال عدسة عنصرية وجندرية. وتعتبر النساء وغير البيض أن تولي مراكز ذات امتيازات أو سلطة عليهم هو أمر غير طبيعي ببساطة ولا يمكن تفسيره إلا على أنه عمل غير منصف- مثل نموذج التمييز الإيجابي".
كانت هناك دوما جهود لبناء تضامن عمالي، ثقافيا وعمليا. ونراه في بعض عناصر الحركة العمالية، مثل اتحادات "يونايت هيير"، وأفراد تقدميين في "إس إي آي يو"، و "الاتحاد الوطني للممرضين"، و"يونايتد أول ووركرز فور ديموكراسي"، و "ساثرن ووركو باور" و "العمال السود من أجل العدالة"، و"التغيير للفوز". وقاد هذه الجهود "حزب العائلة العاملة" المثابر ولكن المحاصر، ومنظمته الشقيقة "سلطة العائلات العاملة". وقد أظهر استطلاعهم الأحدث أن ارتفاع دعم الطبقة العاملة لترامب وللجمهوريين من جماعة "اجعلوا أميركا عظيمة مجددا" لا يعني أن أفراد الطبقة العاملة هم محافظون أكثر من الأميركيين الأكثر ثراءً. بدلا من ذلك، خلص الاستطلاع إلى أن أفراد الطبقة العاملة هم "بشكل موحد إلى يسار الطبقتين الوسطى والعليا" في ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية التي تشجع الإنصاف والعدالة والتوزيع. وفي ما يخص القضايا الأخرى مثل الهجرة، والتعليم، والجريمة، والشرطة، فإن النتائج مختلطة و، على نحو غير مفاجئ، تختلف بحسب العرق، والجنس، والتوجه السياسي. والأهم من ذلك كله، يدرك "حزب العائلة العاملة" أن مصدر الاستياء الرئيسي هو الهجمة النيوليبرالية على العمال والإضعاف الحاد لقوة العمال السياسية والاقتصادية. على امتداد العقود الخمسة الماضية شهدنا عملية هائلة من تصفية للاستثمارات الاجتماعية: تقويض لكل من دولة الرعاية الاجتماعية، والوظائف بأجور كافية للمعيشة، وحقوق المفاوضة الجماعية، العضوية في النقابات، استثمار الحكومة في التعليم، إسكان متاح وبأسعار ميسرة، التأمين الصحي، والطعام، وأساسيات الديموقراطية. في بعض الولايات حل مدراء ماليون لحالات الطوارئ محل الحكومات المنتخبة، يشرفون على خصخصة أصول القطاع العام، والتخفيضات الضريبية للشركات الخاصة، واقتطاعات من الصناديق التقاعدية للموظفين من أجل تحقيق "توازن" في موازنات المدن. في الوقت ذاته رأينا ارتفاعا هائلا في التفاوت في الدخل، وأرباح الشركات الكبرى، والسجون، ومراكز الأبحاث المحافظة الممولة جيدا، ومجموعات الضغط التي أضعفت هيمنتها على الساحة التشريعية بصورة ملحوظة حقوق النقابات، وحماية البيئة والمستهلك، والأمان الوظيفي، وشبكة الأمان الاجتماعي.
والهجمة النيوليبرالية هي أيضا أيديولوجية؛ هي هجمة على مفهوم التضامن نفسه، على العمال كمجموعة لها مصالح مشتركة. وقد قام كل من دايفيد هارفي، وروث ويلسن غيلمور، ودايفيد ماكنالي، ونانسي فرايزر، وويندي براون وآخرون كثيرون بتفصيل هذا التحدي بشكل مقنع. في مواجهة موجة الإضرابات في السبعينيات والركود العالمي الذي فتح الباب أمام التحول النيوليبرالي، سيطرت المقولة التاتشري بأنه "لا وجود لشيء اسمه المجتمع؛ هناك أفراد من الرجال والنساء". على امتداد عقود تم الذم بالنقابات على أنها العدو الحقيقي للتقدم، وكان خصومها يصرون على أنها تأخذ مستحقات الأميركيين الكادحين، وتعطي رؤساء النقابات رواتب متضخمة، وتلغي وظائف بالمطالبة برواتب مرتفعة وتقوض موازنات القطاعين الخاص والعام برزمات تقاعد مبالغ فيها. تذكروا مواضيع النقاش في الحملة الانتخابية الرئاسية لميت كومني: العمال هم من "يأخذون"، والرأسماليون هم من "يحققون" والذين يجب أن يقرروا ما يسددونه للعمال. وتصر الإيديولوجية النيوليبرالية على أن أي مسعى للتشجيع على التساوي، والتسامح والدمج هو نوع من إكراه للفرد، ويضعف الحرية وحق الخيار. ومن شأن إجراءات تنظيمية لإعادة توزيع الثروة من هذا النوع، لاسيما من جانب الحكومة، أن تعادل هندسة اجتماعية وتهدد بالتالي الحرية، والمنافسة، وقوى السوق الطبيعية.
كبرت أجيال وهي تتعلم أن العالم هو سوق، وأننا أفراد من رواد الأعمال. أي مساعدة أو دعم من الدولة تجعل منا اتكاليين وغير جديرين. وتحل المسؤولية الشخصية والقيم العائلية محل فكرة "الاجتماعي" ذاتها، أي أن كل بلد ملزم بالتكفل بالمحتاجين. ومبادئ السوق تحكم الحياة: فكرة إنه إذا قمنا بالاستثمار الصحيح، وأصبحنا مسؤولين أكثر عن أنفسنا، وعززنا انتاجنا- إذا بنينا رأسمالنا البشري- ترتفع قدرتنا على المنافسة، وربما نصبح من أصحاب المليارات. ولدى مزج المنطق النيوليبرالي مع الشعبوية (البيضاء) والقومية المسيحية تحصل على ما تسميه ويندي براون "الحرية السلطوية": حرية تفترض الإقصاء، الأبوية، التقاليد، والمحسوبية كتحديات مشروعة في وجه تلك المطالب الخطيرة والمزعزعة للاستقرار بالاحتواء، والاستقلالية، والحقوق المتساوية، والعلمانية وحتى مبدأ المساواة نفسه. وخليط سام من هذا النوع لم يأت من فراغ، كما تصر براون: لقد نتج عن ركود الطبقة العاملة بكاملها بفعل السياسات النيوليبرالية.
يدل ذلك التشخيص على علاج بديهي. إذا كنا سنقوم بهزيمة الترامبية يوما، والفاشية العصرية، وإطلاق تحد مجدي للرأسمالية العنصرية الجندرية، يتعين علينا إعادة إحياء شعار "العمال الصناعيون في العالم" وهو "جرح شخص هو جرح الكل". وعمليا، فإن ذلك يعني التفكير بما يتجاوز الدول، والتنظيم لمقاومة الترحيل الجماعي عوضا عن التصويت للحزب الذي يروج لذلك. وهو يعني اعتبار كل تصرف عنصري، أو متحيز جنسيا، أو معاد للمثليين، أو معاد للمتحولين جنسيا، وكل اعتداء بالضرب المبرح أو قتل لأشخاص سود غير مسلحين من قبل الشرطة، وكل حرمان من الرعاية الصحية للفئات الأكثر ضعفا، كاعتداء على الطبقة. وذلك يعني الوقوف مع الدفاع عن العمال المكافحين حول العالم، من فلسطين إلى الكونغو إلى هايتي. يعني المحاربة في سبيل الراتب الاجتماعي، وليس للأجر الأعلى وظروف العمل الأفضل فحسب بل إعادة الاستثمار في المؤسسات العامة- المستشفيات، الإسكان، التعليم، الجامعات المجانية، المكتبات، الحدائق العامة. وهو يعني القوة للعامل وديمقراطية العامل. وإذا كان التاريخ مرشدا، لا يمكن إنجاز ذلك من خلال " الحزب الديموقراطي". فمحاولة دفع الديموقراطيين نحو اليسار لم تنفع أبدا. نحن بحاجة لإعادة بناء منظمات مستقلة، بوعي طبقي، متعددة الأعراق مثل "حزب العائلات العاملة" أو "حملة الفقراء" وحلفائهما، ليس لمجرد ولوج الساحة الانتخابية بل لممارسة السلطة بفعالية لتبديد أكاذيب الطبقة الحاكمة حول كيفية عمل اقتصادنا ومجتمعنا في الواقع. إن السبيل الوحيد للخروج من هذه المعضلة هو أن نتعلم أن نفكر كطبقة. فالمسألة هي كلنا أو لا حد.
[نُشر في تشرين الثاني/ نوفمبر، 2024 في "بوسطن ريفيو". ترجمة هنادي سلمان].