تظل هناك جدلية قائمة حول طبيعة الدور الذي يلعبه الفن في الثورات والاحتجاجات الشعبية، وخصوصاً خلال الثورات العربية كونها اندلعت جميعها بصورة سلمية في البدء، ثم تحول بعضها إلى نزاع مسلح كما في حالتي سوريا وليبيا. ولكن في الحالة العراقية، اليوم، وعلى الرغم من بشاعة القمع الهمجي لحكم العصابات الطائفية، فإن الحالة المثيرة للعجب والتي تستحق أعظم الفخر بالجيل العراقي المعاصر هي أن الثورة أعلنت عن سلميتها منذ انطلاقها وحافظت على خطها السلمي رغم كل محاولات الحكومة وميليشياتها لجر الشباب لحمل السلاح. لكن الشباب منذ البداية عرف أي سلاح سيختار، فقد لجأ إلى استخدام سلاح الكلمة من خلال شعارات جديدة كلياً على لغة الشارع العراقي ما بعد 2003 («نريد وطن» و «نازل آخذ حقي») والفن (رسوم الجرافيتي التي ستكون موضع مقالنا) والكوميديا والرقص والمسرحيات الميدانية في مواجهة حكومة القناصين. كل هذا لتعزيز روح الثورة وإدامة زخمها، رغم الدم الذي يسيل على الأرصفة كل يوم. لكن نحتاج أن نعرف الصلة بين الفن وبين الثورة، خصوصاً في التجارب العربية، الثورة المصرية نموذجا، والدور الذي لعبه الفنانون فيها. ستكون المقاربة بين فنين هما الموسيقى ورسم الجرافيتي كونهما من فنون التي تستجيب للحدث وتعبر عن الوعي بشكل مباشر وآني و ليس كما السينما (التي لا نمتلك منها الكثير سوى تجارب شحيحة، كان أبرزها تجربة فلم «شارع حيفا» لمهند حيال مؤخراً) و الأدب الذي يستغرق مدة زمنية لهضم الحدث وما اسيعكسه من آثار على البلد ومجتمعه.
الخطاب الفني والثوري للتجربة العراقية وروح الثورات العربية
يعرف الفن على أنه «نشاط ذهني وظاهرة اجتماعية خلّاقة، متحرك ومتجدد في المعنى والمبنى وفي جوهره نشاط ثوري ناعم، ولا يمكن أن يكون غير ذلك. يعمل جيلاً بعد آخر على تجديد نفسه وهو السائد الثابت الرسمي المتجذر ليبني بديلاً جديداً يستند اليه. ويتطلع إلى قيم ورؤى فكرية وجمالية حديثة.»
كان للثورات العربية تأثير عظيم على الفنون في العالم العربي، بمثابة ميلاد لفكرة الفرق الموسيقية، ورسامي الجرافيتي، المصورين والسينمائيين، الذين سطعت أعمالهم في ساحات الاحتجاج بقوة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي بداية من عام 2011. فبدأ فنانو الفرق المستقلة بالغناء في الميادين، والتغني بشعارات الثوار، والتمرد على الحكام، وملأ الرسامون الجدران بالرسوم المعبرة عن وعيهم وآرائهم بما يجري في البلاد، فكانوا ثورة فنية في حد ذاتها، يتخذون من جموع الثوار جمهورًا لهم، كما يتخذون من شباب الشارع سندًا وحافزًا يساعدهم على استكمال الثورة.
الموسيقى («الأندرجرواند» نموذجاً)
تتميز كلمات أغاني «الأندرجراون»د بالجرأة، وانتقاد الاوضاع السياسية والاجتماعية، وقد تعرّض الكثير من الفنانين لمضايقات أمنية في كثير من الدول، ولاعتراض من المجتمع، على محتوى الأغاني، والأسلوب الجديد. إلا أن مسيرة الفن البديل كانت قد أخذت بالتوسع إلى أن خلقت جيلاً كاملاً من الشباب المعاصر الذي يستمد مرجعياته الفكرية من منطلق عالمي وإنساني بدلا من الجزئي والسائد الذي عادة ما يكون فناً ذا خطاب تعبوي ورث بسبب القيم السائدة التي تبجل الرموز والحكام والتقاليد الاجتماعية. تمثّل أثر أغاني الأندرجرواند» في الثورات العربية بأساليب جديدة ومغايرة مع الاحتفاظ بالجوهري المحلي والهم المعاصر، من خلال الوقوف بوجه السلطة، مناصرة الأقليات، وكل ما هو غريب وجديد عن تلك المجتمعات التي ترفض التغيير ولا تتقبله بسهولة. فظهرت عندها مجموعة من الفرق الموسيقية مشكلة موجة فنية جديدة كلياً على الثقافة العربية، كان من أبرز هذه الفرق الشبابية هي فرقه "كايروكي" التي نزلت لميدان التحرير وأطلقت صوتها بين حشود الثوار لتكون صوت الثورة آنذاك من خلال تغنيها بالثورة و الثوار، لتنطلق بعدها موجة الفن البديل أو بما يسمى «فن الأندرجراوند» في عموم البلاد العربية.
في العراق لم يظهر هذا الجيل بعد ليعبر عن نفسه على الرغم من وجود بعض الفرق الصغيرة والأصوات الفردية. هناك عازفو الكيتار في الساحات، مغني الراب والهيب-هوب. إلا أننا لا نستطيع أن نضع هذا ضمن موجة فنية، لأنها تتطلب شروطاً على مستوى التفكير بالشكل الفني (من خلال الأدوات الموسيقية و الأجناس الموسيقية المشتقة منها، و طريقة كتابة الكلمات، بالاضافة إلى الوعي السياسي والثقافي –الاجتماعي.)
فوجدنا في ساحات الاعتصام في العراق التضارب بين موسيقى النشيد الوطني، (وهي سابقة أن يعاد الإعتزاز بالنشيد الوطني التخلي عن الأناشيد التعبوية). لكن هذا كان مع جزء قليل من المحتجين. أما في الطرف الآخر والأكثر اتساعاً، فقد وجدنا تأثير أغنية (البيكسي) و ( يا گاع ترابچ كافوري)، وهي أغنية حشدت أيام الحرب العراقية –الإيرانية (١٩٨٠-١٩٨٨) جموع المطربين العراقيين ليتغنوا بالحرب ونصرتها ويطغي عليها الطابع الشعبوي) ويفترض أنها أنتجت لمناصرة الثورة السلمية. لكنها مبنية على خطاب تعبوي و قبائلي مغرق بالعنف الذي يمثل المزاج الشعبي، المتأسس على تسلط المليشيات والنزعة القبلية على الشارع. هذه الرثاثة، سواء كانت واعية أم لا، فهي الخطاب الفني المسيطر. ولفهم أصول الرثاثة العراقية نستعير كلمات الباحث د. فارس كمال نظمي في كتابه المعنون «الرثاثة في العراق» حيث يقول ( ان الرثاثةا لا يقصد بها عناصر الفقر أو الحرمان الاقتصادي أو التدهور المعيشي، بل هي مصطلح يعبّر عن مناخ لا حضاري، منحط وفاسد، اخترق الكينونة العراقية على المستويين المجتمعي والدولتي، بتأثير منظومات القيم الرثة التي أشاعها التدين الزائف، نتيجة الحراك السوسيوسياسي الذي أتاحه الاحتلال الأمريكي ابتداءً من ٢٠٠٣ حتى الآن، حينما أعاد بناء السلطة السياسية على نحو أتاح لأكثر الفئات الاجتماعية تخلفاً ورجعية (الدين السياسي والعشيرة السياسية) أن تمسك بمصير البلاد، طاردةً كل التراث العقلاني والجمالي والتنويري الذي كافح من أجله ملايينُ العراقيين على مدى أكثر من ثمانين عاما " فهذه العوامل التي ستبني أجيالاً على أسس رثة ووعي رجعي سيكون الفن الذي يمثله هو ما يمثل الشارع خلال السنين التي مضتً)
الجرافيتي
[كرار سلمان – جدار ساحة البحرية –البصرة]
والجرافيتي فن حديث في البلدان العربية انتشر مع الثورات العربية وهو شكل من أشكال التعبير عن الغضب بمواجهة الأوضاع السياسية والاجتماعية التي تعاني منها الشعوب. وفي الحقيقة فإن فن الجرافيتي يعتبر أحد اقدم الفنون التي عرفها الوعي الإنساني، من خلال الرسوم على الكهوف ومن ثم الرسم على الجدران في الحضارات من الفرعونية إلى الرومانية. اذن هو تعبير عن لحظة الوعي و تصريح عن التعبير عن الذات تخليدها.
" الثورة بدون فن، ليست ثورة مكتملة"
هذا ما قاله فنان سوداني وهو من جيل كبير شارك في إسقاط حكم البشير، حيث عبر جيل الفنانين السودانيين عن هويه جديدة من خلال الرسوم التي ملأوا بها جدران البلاد. وها نحن اليوم نشهد ولادة جيل عراقي جديد يفجر وعيه الفني و الثوري بوجه القمع ليطلق صرخة عميقة صامتة على جدران نفق التحرير وباقي الجدران في العاصمة بغداد و المحافظات المنتفضة. مسجلا ولادة جيل جديد، من شابات وشباب على حد سواء. جيل ليس معنياً بالتغيير السياسي فحسب، إنما بالتغيير على مستوى الذوق الفني وبالتعبير عن نفسه وعن موقفه بالحياة، من المساواة بين الجنسين، إطلاق الصوت المكبوت خوفاً من رصاص المليشيات، ثورة من خلال الفن الذي ينعتق من الأساليب الرثة التي نشهدها منذ سنين. اليوم يتطلع شباب هذا الجيل الجديد إلى إصلاحات سياسية تنهض بالبلاد، ليحقق مطالبه المتمثلة بالدولة التي تتيح له التعبير عن ذاته، لا دولة تملكها شبكات زبائنية من اللصوص والقيم البالية، حيث لا وجود للصوت الفردي والمختلف المطالب بحياة ودولة تحترم كيانه البشري.
[سجاد مصطفى –نفق ساحة التحرير –بغداد]
[رائد مضاء –نفق التحرير-بغداد]
[كرار ستار –ساحة الحرير-بغداد]
هوامش
1-الجباعي، غسان «الفن والثورة السورية» مركز حرمون للدراسات.
2-فارس كمال نظمي، «الرثاثة في العراق: أطلال دولة، رماد مجتمع» (دار ميزوبوتاميا، ٢٠١٥).
3-بي بي سي، «فنانون في ساحة التغيير: ثورة إبداعية يمنية» تمت المعاينة في 20 ديسمبر 2018.
4-وائل كمال، «أيامي مع كايروكي: حكاية جيل أراد أن يغير العالم" (الدار المصرية اللبنانية، ٢٠١٩.)