ديفيد كانبرغز
يوم السبت، في الرابع من نيسان\أبريل 2021، أقامت السلطات المصريّة عرضا باهرا، يتلألأ (بحضور) النجوم و(بتفاصيل) ذات أبعاد أسطوريّة: احتفال بحضارة وبسالة مصر القديمة لمناسبة الافتتاح الرسمي للمتحف الجديد في البلاد "المتحف القومي للحضارة المصريّة" في الفسطاط. والحدث، وكان بعنوان "موكب المومياوات الملكيّة" كان عرضا مبهرا ومسرفا يتضمن أغان، ورقص وأزياء متقنة. وكان محوره الرئيسي عملية النقل المهيبة لاثنتين وعشرين مومياء من عصر المملكة الفرعونية الحديثة من مقرّها السابق في "المتحف المصري" في ميدان التحرير إلى محطتها الأخيرة في المتحف الجديد. و"الرحلة الأسطوريّة" كما أُطلق عليه خلال النقل المباشر للعرض، هو حتما حدث يمكن للمصريين أن يفخروا به، كونه احتفال في غاية الأناقة بالحضارة المصرية القديمة والحديثة في آن.
إلّا أن هناك وجها آخر لهذا الاستعراض المجيد للتعبئة القومية. فالعرض المتباهي برموز من الفخر الحضاري، كان محبوكا مع خطوات ظاهرة وأخرى رمزيّة تساهم في توضيح طبيعة الدولة المصريّة المعاصرة وعقليّة قادتها الحاليين.
أولا، يُقدّم "الموكب الذهبي" نموذجا رئيسيا للجوء النظام الحالي إلى الاستنفار العسكريّ للتاريخ لتعزيز سلطته. ثانيا، فهو يدلّ على الطمس المتعمّد والمستمر لثورة العام 2011 من فضاء المدينة ومن الذاكرة الجماعيّة. وأخيرا، يساهم الموكب في كشف عجز النظام المطلق عن استيعاب أي شيء خارج الإطار العسكري، الأمر الذي يوّضح بحد ذاته تطوير نظام مواطنة بمستويين في مصر وتحصينه الإضافيّ، وهو مقسوم بين المنتمين للجيش، وبين المدنيين الذين من المفترض ظاهريا أن يحميهم ويدافع عنهم، إلّا أنه يتم استغلالهم باطراد.
مملكة جديدة، عاصمة جديدة، دولة جديدة
بالكلمات كما بالصور، رسم "الموكب الذهبي" أوجه تشابه واضحة بين حكّام سلالات مصر القديمة وبين الرئيس عبد الفتّاح السيسي-واستطرادا الدولة المصريّة المعاصرة. خلال الاحتفال، الذي كان يضيء باستمرار على الآثار المختلفة التي كان واضحا أن الحكومة مستميتة لجعل السيّاح الأجانب يأتون لزيارتها، كان التركيز مسلّطا على القوة العسكريّة لحكّام هذه الأسر القديمة.
وفي شريط فيديو حمّلته وزارة السياحة والآثار على "يوتيوب" بهدف أن يكون مقدّمة (ترويجيّة) للموكب، يقول الممثّل حسين فهمي عن الحضارة المصريّة القديمة أنّها " قدّمت للبشريّة أول نموذج حيّ لدولة قويّة أساسها العلم والإيمان ". وهذا يتماشى قطعا مع مقاربة السيسي على أنّه "الرجل القوي"، والتي تشدد على حدود آمنة (مثل مع ليبيا حيث قادت مصر عمليّات عسكريّة)، وعلى عدم المهادنة في الخلافات الإقليميّة مثل المفاوضات القائمة حول ملء واستخدام سدّ النهضة الأثيوبي الكبير، والقسوة في الجهود المستمرّة لتدمير ما تصفه الحكومة بـ "النشاطات الإرهابيّة" في سيناء، والتي تجسدت بـ "العملية الشاملة في سيناء" سنة 2018، والتي تم الترويج لها بفخر من خلال لقطات إعلانيّة متكرّرة عبر المحطات التلفزيونيّة الخاصّة والحكوميّة. كما أنها توازي بين الإداء التقي للسيسي في الحياة العامّة، والتي يرغب من خلالها أن يقدّم نفسه ليس كحام لأمن البلاد فحسب، بل أيضا لحياتها الدينيّة. ويمضي فهمي واصفا بعض حكام سلالات المملكة الفرعونية الحديثة معتبرا أن أمنحتب الثالث كان حاكما " حافظ على الاستقرار وعلى خير البلاد طول فترة حكمه "، ورمسيس الثاني "الملك المصري العظيم الذي حكم مصر لنحو 67 عاما،" ورمسيس الثالث الذي "قدر يحمي مصر من غزو شعوب البحر".
لاحقا، ذكّرت الممثلة منى زكي الجمهور أن " جيشهم أقوى جيوش الأرض، جيش بيحمي الناس والعرض. وهكذا، فإنه من الواضح أن الحدث استخدم للربط بين هؤلاء الحكّام الأقوياء وخلفياتهم العسكريّة وبين السيسي نفسه، وهو أمر تجلّى من خلال تشابه صور رجال الشرطة المرافقين للمومياوات وأولئك المولجين حماية موكب السيسي لدى وصوله إلى المتحف الوطني للمشاركة في الاحتفالات. ولكن الرابط ظهر بشكل أوضح بعد حين قدّم وزير السياحة والآثار خالد العناني تمثال توت عنخ أمون هديّة للرئيس لدى وصوله إلى المتحف. ويصف العناني التمثال بأنّه للملك توت وهو يصطاد، وهو ما يرمز بحسب قوله إلى الملك " وهو بيحاول يقتل الشر عشان يؤسس دولة قويّة . ثم يقول للسيسي أنّه برأيه فإن "دي أنسب حاجة ممكن نقدمها لسيادتك". وهكذا، فإن الحدث برّمته استخدم بطريقة استطراديّة ورمزيّة معا لإرساء السيسي كفرعون حديث، مثلما فعل أسلافه المستبدين من قبله.
إلا أن للموكب وللنظام هدفا أوسع من مجرد تتويج السيسي كفرعون معاصر. ومثل أنظمة الرؤساء السابقين ناصر والسادات ومبارك، فإن نظام السيسي يهدف إلى تقديم نفسه على أنّه يتساوى قوة ومجدا مع هذه الأسر الفرعونيّة الحاكمة. ويتضح ذلك من خلال فيديو سُجّل مسبقا وبُث خلال الاحتفال، مقدّما الممثّل خالد النبوي الذي كان (ليس بالصدفة أو اعتباطيا) أحد أبرز الشخصيات المشاركة في ثورة 2011، وهو يجول على عدد كبير من المواقع السياحية الثقافيّة والدينيّة التي تمّ تجديدها منذ وصول السيسي إلى الحكم. وفي إحدى اللقطات، يبدو النبوي وهو يتحدّث مع العناني حول متحف آخر جديد من المفترض أن يفتتح في العاصمة الإداريّة الجديدة التي يتم بناؤها حاليا في الصحراء شرقي الحدود الحاليّة للقاهرة. ويقول العناني أن "العاصمة الجديدة تساوي دولة جديدة مبنية على العلم والثقافّة والفنون". والتشابه مع وصف حسين فهمي لحضارة مصر القديمة على أنّها " قدّمت للبشريّة أول نموذج حيّ لدولة قويّة أساسها العلم والإيمان " صارخ، ومن المؤكّد أنّه مقصود. هنا يقدّم النظام نفسه على أنّه إعادة إحياء لدولة قويّة وشاملة وجاهزة لتوفير أمجاد جديدة لمصر، ولكن فقط، طبعا، بعد تحقيق الأولويات الأمنيّة. وكما أن المومياوات هي جزء من سلالات المملكة الحديثة، فإن الفرعون الجديد والعاصمة الجديدة يهدفان إلى تجسيد حقبة جديدة في تاريخ مصر، حقبة تسعى لمحو أي أثر ممكن لأي احتمال مغاير لحكمها العسكري الشامل.
محو الثورة
كان الموكب جزء أساسيا من الجهد المستمر لمحو ثورة 2011 من الذاكرة الجماعيّة للشعب المصري. وانطلق الموكب، طبعا، من ميدان التحرير، موقع الانتفاضة الحاشدة التي أطاحت بحسني مبارك، والذي شهد الصراعات اللاحقة على السلطة التي حصلت بين ثلاث مجموعات على الأقل في المجتمع المصري: الناشطون في سبيل الديموقراطيّة وحريّات الإنسان الأساسيّة، والجيش المصري وحلفاؤه من بين المناصرين للنظام السابق (الفلول)، بالإضافة إلى مجموعات إسلاميّة متنوّعة، والأبرز من بينها "الإخوان المسلمون". ولقد بدأ المجهود لمحو هذا التاريخ واستمر منذ وصول السيسي إلى السلطة، وهو واضح، مثلا، في واقع أنه في 25 يناير من كلّ عام تحتفل الحكومة بعيد الشرطة من دون أي ذكر كان للانتفاضة التي انطلقت في اليوم نفسه سنة 2011. وهو واضح أيضا في إعادة تسمية الاحتجاجات التي اندلعت في 2013 ضد الرئيس آنذاك محمد مرسي على أنّها "ثورة 30 يونيو"، بزعم أنّها كانت التعبير العفوي والحقيقي لإرادة الشعب. وكان هذا هو الحدث الذي استغلّه الجيش كحجة لإزاحة مرسي من منصبه (تنفيذ انقلاب بمعنى أصح) ما حمل النظام الحالي (مجددا) إلى السلطة. ولكن وحتى وقت قريب كان النظام يبدو غير واثق من كيفيّة التعامل مع موقع الميدان نفسه. فبالإضافة إلى كونه قلب الثورة السابق، فإنّه أيضا تقاطع رئيسي في توزيع حركة المرور في القاهرة، كما أنّه بوابة رمزيّة وفعليّة لوسط القاهرة. وعلى الرغم من أن الحكومة قامت بالعديد من التعديلات الطفيفة في ميدان التحرير منذ وصولها إلى السلطة، إلا أنّه يبدو أنّها استقرّت مؤخرا فقط على مخطّط للاستحواذ أخيرا على المساحة الرمزيّة للميدان التي لطالما سيطرت عليها ماديّا، ومن ثم، وبعد محاولات على امتداد أعوام، قرّرت أنّ تغسل عنها، مرّة وللأبد، الآثار الأخيرة لثورة 2011.
ويشمل المخطط مستويات عدّة، ويسعى لإنجاز هدفه عن طريق ترميم وتجديد مباني الميدان وتلك المحيطة به، وتعديل معالمه ليتحوّل إلى معلم سياحيّ ترفيهي عبر استخدام إضاءة محترفة، ورمزية المسلّة وتماثيل أبو الهول الفرعونية التي تمّ تثبيتها مؤخرا في منتصف الميدان، بالإضافة إلى العرض الخرافي التاريخي لموكب الملوك والملكات القدماء.
وقد أعرب ناشطون وأكاديميون لفترة طويلة عن قلقهم من إمكانيّة تحويل الميدان إلى "متحف للثورة"، عير تغليفه وعزله بعيدا عن أيّ إمكانيّة للاحتجاج السياسي التي من الممكن أن تحاول إكمال الثورة التي لم تكتمل أبدا. إلّا أنّ ما حدث هو ربّما أكثر جذرية (وقسوة) حتّى. فقد كانت عمليّة المحو تدريجيّة، على الرغم من أنّه كانت هناك قطعا خطوات ملموسة، مثل العام 2015 حين قامت الجامعة الأميركيّة في القاهرة بهدم الجدار الشمالي لمقرّها في ميدان التحرير، محطمّة بذلك تلقائيا الرسومات والشعارات الجداريّة الثوريّة المؤثّرة التي طليت عليه، وهي جداريات تكرّم ضحايا هجمات الجيش الوحشيّة على المحتجّين خلال الثورة التي طال أمدّها.
ولكن، على امتداد العام المنصرم، بدأ النظام جدّيا في تحويل ميدان التحرير إلى ذكرى-ولكن ليس عن الثورة. بل ذكرى من حقبة أخرى، من زمن بعيد، اختفى من وقتها، حين لم يكن وسط البلد في القاهرة تجمعا مترهّلا متداعيا من المتاهات الهندسية الاستعماريّة، بلّ كان جديدا، منظّما وفي غاية النظافة.
بدأت الحكومة بطلي المباني القيّمة هندسيا في منطقة وسط البلد والتي تحيط مباشرة بالميدان من جهتيه الشرقية والشماليّة، وكأنّما يمكن لبعض اللمسات من الطلاء أن تُخفي عقودا من الإهمال، ويمكن أن تغطي الدماء التي أراقها بشكل متعمّد ووحشي ومضلّل الجيش ذاته الذي يمسك اليوم بزمام الأمور في البلاد، كما فعل دوما (بأشكال متعدّدة) منذ انقلاب 1952 الذي حمل "الضباط الأحرار" إلى الحكم.
وقام النظام أيضا بإضافة إضاءة محترفة وفّرتها شركة "سراج للإضاءة" لإضافة لمسة على مشروع التجديد هذا. واليوم تم تثبيت إضاءة قويّة على المباني والآثار المواجهة للميدان، حولته هو ومحيطه إلى موقع جذب سياحي يشبه المنتزه، وتبرز تراثه الهندسي الاستعماري مع الإهمال المتعمّد لأي وجه من أوجه تاريخه الحديث.
وتجديد ميدان التحرير هو واحد من العديد من مشاريع التجديد التي يستعرضها خالد النبوي خلال الفيديو المسجّل الذي أذيع كجزء من الاحتفالات. إلّا أن الميدان لا يظهر لأكثر من عشر ثوان بالمجمل، يقول النبوي خلالها فقط أنّه "أشهر ميادين مصر المرتبطة بتواريخ خالدة في حياة المصريين". وتُظهر آلة التصوير باقتضاب لافتة مثبّتة في الميدان تشير إلى ثورة 1919 و"ثورة" 1952، وفي أسفلها تماما، وقد تم قطع المشهد تقريبا فيما الصورة تتّجه نحو الأسفل، ذُكرت ثورة 2011 و"ثورة" 30 يونيو.
هكذا إذا، هناك شبه طمس لواحد من أهّم الأحداث الحديثة في حياة الميدان والشعب المصري، أنجز عبر تفادٍ متقن، وتعميم كلامي، وانزلاق آلة تصوير. واختيار الميدان لاستعراض موكب المومياوات يحوّله أكثر إلى أرض احتفالات، ومسرح لمهرجانات التعبئة القومية التي تمجّد التاريخ والعنف السياسي. وكان الميدان خال تماما من الناس خلال مرور الموكب الذهبي، كان مساحة تم تنظيفها من أي أثر للنشاط البشري سوى الاحتفال القائم، والذي تم تقديمه، للمفارقة، كاحتفاءٍ بالشعب المصري الغائب بوضوح. بهذه الفخامة البرّاقة المتألّقة، أنجز النظام أخيرا ما كان يحاول إنجازه على امتداد الأعوام العشرة الأخيرة: المحو شبه الكامل لثورة 2011 من مساحة الميدان وذاكرته.
عسكرة كلّ شيء
بعد الكثير من مظاهر الاحتفال والبذخ، جاء أخيرا الظهور الفخم للمومياوات في الموكب، وكلّ منها داخل صندوق أنيق حُمّل فوق عربة ذهبيّة، نقش عليها اسمها، ترافقها آلات تصوير صغيرة تمكّن المشاهدين من رؤيّة الفراعنة السابقين وهم يستمتعون برحلتهم الأسطوريّة.
وخرجت العربات من حرم المتحف المصري العائد إلى 119 عاما، في ميدان التحرير، ومرّت في صفّ واحد على امتداد جادّة طويلة يصطّف على جانبيها عشرات الممثّلين مرتدين أزياء فرعونيّة وحاملين كرات مضيئة كأنّها تنتمي للمستقبل. ثم دارت المومياوات دورة واحدة حول الميدان قبل التّوجه عبر شارع عبد القادر حمزة إلى كورنيش النيل الذي سيقودها إلى مثواها الأخير في الفسطاط. وعلى الرغم من أن المومياوات استمتعت بلا شك في نزهتها اللطيفة على الكورنيش، إلّا أن أمرا أكثر أهميّة كان مقصودا خلال رحلتهّا المعّدة جيدا. فإلى جانب إعادة صياغة ميدان التحرير كمركز للإرث الفرعوني، فعّل الموكب أيضا الاستنفار العسكريّ للمومياوات نفسها، مصنّفا إيّها رغم إرادتها في خدمة الجيش والدولة المصريّة التي باتت الآن بالضرورة مرادفا لها.
لم يكن الجيش المصري حاضرا على امتداد مسار الموكب فحسب، (بل أيضا) في بعض الصور الأولى التي عرضت (لقطات مسجّلة لضباط عسكريين يمتطون أحصنة بيضاء اللون على طريق الموكب)، وفي الفرقة الموسيقيّة العسكريّة التي أدّت أمام مبنى المجمّع الإداري، وفي فرق الإيقاع العسكريّة التي تقدّمت المومياوات في طريق مسارها، وحتى العربات التي حملت المومياوات والتي كانت عسكريّة بوضوح وقد موّهت بالكاد بزينتها الفرعونيّة الفاخرة.
وفيما ساهم كلّ هذا حُكما في تحويل هذا الاحتفال الثقافي إلى آخر عسكري، فإنّ المغزى الأساسي لرحلة المومياوات لم يُكشف سوى حين وصلت إلى المتحف القومي في الفسطاط، حيث تم الترحيب بها بتحية من 21 طلقة.
فيما كان الموكب يقترب من المتحف، أظهرت آلة التصوير صفّا من خمس مدفعيات عسكريّة خضراء، يشغّل كل منّها ثلاث جنود وسيمين بلباسهم العسكري الكامل. واحدا تلو الآخر، قامت المدافع بالإطلاق في الهواء على شرف الملوك المتوفيين من زمان والذين يحظون أخيرا بمأتم عسكري مناسب وهو الخاتمة المنطقيّة الوحيدة للخدمة المسائيّة التي قدّموها للنظام الحالي.
لكن ذلك وحده لم يكن كافيا. فالاستعراض لم ينته بعد، ليس قبل أن يغادر السيسي نفسه قاعة المتحف حيث كان يشاهد الأداء الأوركسترا الاستثنائي الذي وفّر الموسيقى المرافقة للموكب، ثم مشى إلى واجهة المتحف حيث وقف منتصبا فيما كانت المومياوات تعبر. وبذلك وقف السيسي يستعرض القوات الجديدة، ملوك وملكات مصر السابقين المتوفين الذين، وبسحر التعبئة القومية، أصبحوا مجنّدين في جيش هذا الرجل، مرغمين على الرضوخ له وهم مستلقين في رقودهم الخامد. وكانت المعجزة أن السيسي قاوم الرغبة في إداء التحيّة العسكريّة التي كانت حتما تجري في كلّ ذرّة من جسمه فيما كان المجنّدون الجدّد يمرّون ليتفحّصهم.
هذه الخطوة، على الرغم من غرابتها، تتجاوز الخطاب التقليدي لممارسة السلطة وللشعبويّة. في الواقع، فإن غرابتها بالذات تكشف حقيقة أكثر تشاؤما كامنة في قلب النظام الحالي، وهي أنّه عاجز تماما عن تفّهم أي شيء خارج إطار المنظور العسكري. بالنسبة لهذا النظام، لا يوجد منطق، أو مفهوم، أو فكر خارج الحلقة العسكريّة والخدمات الأمنيّة المتعلقّة بها، وأي شيء موجود بطريقة ما على هامشها سوف يتم سريعا اعتقاله أو تجنيده. (1) ليس لأن النظام لا يفهم المجتمع المدني، بل لأنّه ببساطة يتجاهله، موقنا أن كلّ مدني هو أدنى مستوى كليّا من القيادة العسكرية وخبرتها.
في أبريل\نيسان 2020، خلال الأيام الأولى لجائحة (كورونا) في مصر، وفي وقت كان النظام يشجّع (لفترة وجيزة) على ارتداء الكمّامات، بدأ شريط مصوّر قصير ينتشر مظهرا السيسي وهو يتفقّد التقدّم الحاصل في واحد من مشاريع البناء الحكوميّة العديدة المستمرّة. في الفيديو، يوبّخ السيسي بإسهاب ضابطا عسكريا يقف أمامه، مطالبا بمعرفة سبب عدم ارتداء عمّال البناء للكمامات. ويبدو غيظه ملموسا، وبعدما أظهر حركة اشمئزاز، سأل "فين المدني المسؤول عن الكلام ده؟ قول لي المسؤول مين؟ المدني مين؟". المدني هنا هو طبعا النقيض الطبيعي للعسكر. وهذا هو المفتاح لفهم النظرة الشاملة المزدوجة للنظام الحالي، الذي يقسّم مصر إلى نظام من مستويين من الحقوق والامتيازات. ومن المؤكّد أن المستويين العسكري والمدني متداخلان مع الانقسامات الطبقيّة الأخرى للمجتمع المصري (المحكوم بمحظور صارم يمنع مناقشة هذه الانقسامات). وطبعا للمدني بعض النفوذ الضئيل بسبب مصالح أعمال الجيش المصري المتوسّعة والحاجة الناتجة عن ذلك للتعاون مع مجرّد مدنيين. إلا أن الواقع هو أن الجيش مازال يرى أنّه من فصيلة مختلفة، حاكم محسن يقود شعبا من المدنيين غير الأكفّاء والطفوليين سيكون عاجزا تماما عن إعالة نفسه أو تقرير مستقبله اذا أتيحت له الفرصة أن يفعل ذلك.
إن خطاب السيسي وأفعاله هو وحكومته أوضحت ذلك مرارا وتكرارا بشكل جليّ. وذلك واضح، مثلا، في رفض الحكومة المستميت مؤخرا لاعتبار "شهداء" الطواقم الطبّية الذين ماتوا بسبب كوفيد 19 نتيجة لعملهم في مكافحة الجائحة المستمرّة، بمكانة متساوية (ماليا ومعنويا) مع "شهداء" الجيش والشرطة المصريين. والمعنى صريح: شهداء قضية الحماية والمعالجة هم أدنى رتبة من شهداء قضيّة الأمن القومي.
حتما، سيقول البعض أنه كان في مصر لفترة طويلة طبقة عسكريّة تتمتع بامتيازات. وفي أكثر من مناسبة، تحدّث مصريون معي عن "دولة يوليو" لدى التكلّم عن النظام الحالي، وهو تعبير يرمي إلى الإشارة إلى كونه استمراريّة لما وصفته لي إحدى النساء بـ "الاحتلال العسكري الذي نعيش تحته منذ 1952". وفي حين أنه صحيح أنّ مصر حُكمت من قِبل تعاقب للرجال العسكريين منذ نحو سبعين سنة، إلا أن ما يحدث حاليا في مصر، وما هو جليّ بوضوح من خلال فخامة وخطاب الموكب، لا يمكن اعتباره إلّا تكثيفا لعسكرة الدولة، وشرخا إضافيا بين فصيليّ المجتمع، وتطورا متسارعا للدور العسكري كنظام حاكم هو استغلالي بالضرورة.
جسور ودجاج وسحب الاستثمارات
في اليوم الذي تلا الموكب، كتب المؤرّخ خالد فهمي تدوينة بليغة على فايسبوك اعتبر فيها أن الاستعراض يُظهر أولويات النظام الحقيقيّة، التي تركّز على الأمن وتسنيد الإهمال المطلق للصحة والنقل والتعليم العام. وتأكيدات فهمي صحيحة للغاية. فالدولة، أي العسكر والهيئات الأمنية التابعة لهم، لا تكترث إطلاقا لهذه الأشياء، للسبب البسيط بأنّ هدفها البديهي هو التأكّد من أنّ مواطنيها سيصبحون جهلة، ومرضى، ومنهكين من الكفاح للعيش حتى الغد لدرجة أنّه لن يتبقى لديهم ما يكفي من الطاقة للاعتراض على رغبة أسيادهم العسكريين.
علاوة على ذلك، يجب فهم الحكومة الحاليّة على أنها نظام استخراجي لا يرى في المدنيين أكثر من مورد يجب استغلاله لمصلحته. وذلك يفسّر سبب انشغال العسكر والمتعهدين المحسوبين عليهم ببناء العشرات، وربّما المئات من الجسور الجديدة، التي هي غالبا غير لازمة على الإطلاق، على امتداد البلاد مستخدمين بلا شك الإسمنت من مصانع الإسمنت التي يملكها الجيش ومدمرين عشوائيا أي شيء يقف في طريقهم، من مدافن أثرية إلى الأبنية غير المرخّصة التي انتشرت بكثرة في العقود الماضية. وذلك يفسّر سبب اارتفاع عدد الشركات المملوكة للعسكر منذ تولي السيسي للحكم، وسبب اتساع مجال عملياتهم ليشمل كلّ أنواع الصناعات غير المرتبطة بالجيش. كما أنّه يفسّر لماذا تبيع وزارة الداخليّة اللحوم والدجاج من خلف شاحنات صغيرة تركن خارج محطّات المترو في القاهرة، بأسعار تقوّض جذريّا الجزارين المحليين. كما أنّه يلقي الضوء على حملة النظام لحمل كل مواطن على المشاركة في النظام المصرفي، وجهوده لإرغام المواطنين على تسجيل ملايين الممتلكات العقاريّة غير المسجّلة في الشهر العقاري المصري، ورفعها السريع للدعم عن النفط، ووقود الطهي والكهرباء والماء والخبز.
ولذلك أيضا كانت خطّة مصر منذ بداية جائحة كوفيد 19 هي الإنكار فالإنكار ثم الإنكار، والاستمرار في تلفيق الإحصاءات الرسميّة لإظهار أنّ هذا البلد المؤلّف من أكثر من مئة مليون نسمة-والذي، في العام الماضي، لم يفرض ولا حتّى إقفالا تاما واحدا، وفي مناسبتين فقط وضع وطبّق (لفترة وجيزة) قانونا باستخدام الكمامات في وسائل النقل العام والمباني الحكوميّة-قد نجا بطريقة ما من الأرقام الهائلة للمرضى والأموات التي عانت منها تقريبا كلّ دولة أخرى في العالم.
في غضون ذلك، تبدو التعليقات على فايسبوك وكأنها نشرات نعي. كل هذه الأفعال تصبح منطقيّة حين يدرك المرء أن النظام الحالي عازم على مص دماء كل مصري ليست له فائدة مباشرة لدولته العسكريّة-الصناعيّة، سارقا منهم الرمق الأخير حتّى ينهاروا ويموتوا في رواق مستشفى حكومي يعاني من نقص في التجهيز، أو أفضل بعد، في المنزل حتّى لا تضطر الحكومة للتعامل مع الأمر على الإطلاق.
أولوية النظام ليست الشعب المصري. حتّى أنّ الأمن القومي ليس مهما بالنسبة لهم إلا بقدر ما أنه يعمل على حماية المصلحة الماليّة الوطنية (أي العسكرية). إن رمزّية هذا الموكب الاحتفالي الأنيق وخطابه يوضحان بقوة حقيقة أن حكّام مصر العسكريين ليست لديهم أي نيّة لإرخاء قبضتهم التي تستمر في الإطباق على رقاب الشعب المصري.
لقمة عيش
بعد عشر سنوات من الثورة، (أصبحت) الدولة هي الجيش والجيش هو الدولة. السجون ممتلئة حتى آخرها بالسجناء السياسيين والأخلاقيين الذين غالبا ما يتم اعتقالهم لشهور أو حتّى لسنوات بلا محاكمة. الفقر يستشري والحياة تصبح سريعا أكثر صعوبة بالنسبة للجميع باستثناء قلّة من (أبناء) الشعب الضخم للبلاد. ويهرب الآلاف من المصريين الموهوبين من البلاد ليبدأوا من جديد في مكان آخر، فيما الباقون، أولئك الذين لا يملكون ما يكفي من التعليم أو المال للسماح لهم بالسفر، يزدادون يأسا في كفاحهم للبقاء على قيد الحياة من يوم للآخر.
والحقيقة هي أن هناك حربا تشن على الشعب المصري، حرب خططت لها وتنفذها حكومتهم نفسها. وموكب المومياوات الذهبي كشف العديد من أوجه تلك الحقيقة: التثبيت المتسمر للسيسي كفرعون بلا مساءلة، استنفار أوجه عدّة من التاريخ المصري لخدمة النظام الحالي، والفصل شبه المكتمل بين العسكر وبين المواطنين المدنيين فيما الجيش يرتقي من طبقة محظوظة بامتيازات إلى فصيل نادر يسمو فوق العامّة وينظر إلى أسفل من علو لا يمسّ. وكل ذلك صار ممكنا عن طريق طمس ميدان التحرير الثوري وتحويله إلى مسرح لإداء العروض التي تصيغها الحكومة. وعلى الرغم من المخيلّة (الفانتازيا) الاحتفاليّة للموكب الذهبي، يستمرّ المصريون في المعاناة تحت القبضة التي تزداد قمعا لنظام عسكري لا يعترف حتّى بإنسانيتهم.
وكان ثوّار ميدان التحرير يطلقون هتافهم الشهير "عيش، حريّة، عدالة اجتماعيّة". بعد عشر سنوات، باتت الآمال بالحريّة والعدالة الاجتماعيّة بعيدة جدا عن أذهان معظم المصريين. والغالبية الكبرى منهمكة في الركض خلف لقمة العيش اليومية، التي كانت في مطلع تلك القائمة القصيرة من المطالب، وهم يكافحون كل يوم لإشباع أنفسهم وأسرهم، ويحاولون بإستماتة التشبّث بما تبقّى من كرامتهم الإنسانيّة الأساسية قبل حتى أن يتّم تجريدهم منها. وليس هناك من ينكر أن الوضع قاتم. ولكن على الأقل، ولليلة واحدة تمكّن المصريون من الاحتفال والافتخار بإرثهم الحضاري، حتى لو كان ذلك أيضا يتحوّل إلى سلاح إضافي في يد النظام.
لفهم هذه النقطة على المرء النظر إلى العدد الكبير الذي لا يستوعيه عقل من التوقيفات ذات الخلفيات السياسيّة والاعتقالات المطوّلة غير الشرعيّة، ومجزرة رابعة في 2013 وما تلاها من اقتلاع لجذور الاخوان المسلين، والاستخدام المذكور أعلاه للمشارك السابق في الثورة، خالد النبوي، في حدث يمجّد الدولة القمعيّة التي تلتها، ومشاركة (التي قيل أنّها فُرضت فرضا) مغني الراب والممثل أحمد مكي في الجزء الثاني من المسلسل الذي عرض في رمضان الماضي تمجيدا للجيش وعنوانه "الإختيار" والذي يروي قصّة "شهيد" القوات المسلّحة، العقيد أحمد منسي.
[نشر المقال بالإنكليزية على «جدلية». ترجمة هنادي سلمان.]