يصيب عدة نساء حاليًّا "إجهاد ما بعد الكورونا" إن جاز التعبير. فبعد أشهر من العمل غير المرئي والمسافات المشروطة التي فرضتها جائحة العصر، وُضِعت قوّة المرأة على المحك. مقابل شعار "معًا سنتغلب على فيروس كوفيد-19" كان هناك نساء في قلب المراكز الصحيّة وخلف نوافذ المنازل ومربّعات الشاشات الافتراضية يخضن دوّامة الضغوط الكورونيّة على نحو غير متكافئ. وفي هذه اللحظة تشعر عدة نساء حول العالم بتبعات الجائحة وبحالات من الإرهاق. فخلال العامين الماضيين فرضت ظروف الحجر أن تبذل المرأة جهودًا مضاعفة من حيث تدريس الأطفال ومتابعة شؤون المنزل وتوفير مصادر الدخل المتقلبة. في المقابل، اصطدمت أزمة الكورونا بمنظومة حقوق العمل وتلاعب عدة مسؤولين بالعقود. كذلك اصطدمت الأزمة بتقييم عمل المرأة بشكل لا يراعي عملها الحقيقي أو الظروف غير المألوفة الواقعة على كاهلها. أمام مختلف التحديات زادت معدّلات تسرّب النساء من الدراسة والعمل المأجور. كذلك تجلى نفوذ رأس المال التقني، حيث كان للنساء اللواتي يتملكن مهارات الإنترنت والعاملات في بعض المجالات التقنية والبيروقراطية فرص أعلى لمواصلة عملهنّ من المنزل تحت الحجر وتعليم أطفالهنّ عن بُعد، مقارنةً بنساء أخريات انقطع مصدر دخلهنّ تمامًا مع صعوبة اللحاق بسرب العالم الافتراضي. فيما يلي بعض الحيثيات ذات العلاقة.
فقدت النساء حول العالم 64 مليون وظيفة في عام 2020
جاء في بيان نشرته منظمة أوكسفام الدولية في نهاية أبريل 2021 أنه في عام 2020 وحدها فقدت النساء حول العالم 64 مليون وظيفة (طبقًا لإحصائيات منظمة العمل الدولية). في الواقع، كلفت هذه الجائحة النساء حول العالم 800 مليار دولار، المبلغ الذي يساوي الناتج المحلي الإجمالي لـ98 دولة مجتمعة وفقًا لمنظمة أوكسفام. وتضيف أوكسفام إلى ما ورد عن وكالة رويترز أنه من المتوقع أن تعاني 47 مليون امرأة إضافية من الفقر المدقع حول العالم، أي أنهن سيجنين أقل من 1.9 دولارًا يوميًّا في عام 2021. يُنذر ذلك بتصاعد الفجوة أكثر فأكثر بين الرجال والنساء في قطاع العمل.
واصلت بعض المهن المعتمدة على الإنترنت أشغالها عن بُعد خلال الجائحة اعتمادًا على تطبيقات وبرامج محادثة افتراضية. أمام صعوبة الوصول إلى حضانة أو تولّي أحد أفراد العائلة أو المعارف رعاية الأطفال، وقع على عاتق عدة نساء العمل المنزلي، إضافة إلى العمل في الخارج (في بعض القطاعات مثل المستشفيات) أو العمل عبر الإنترنت تحت الحجر، بعقود ثابتة أو متحولة أو تكاد تنتهي أو غائبة، وعلى الأغلب بوجود أطفال وزوج أو أحد أفراد الأسرة برفقتهنّ في المنزل. كذلك تولت المرأة غالبًا دعم أفراد الأسرة على الصعيد العاطفي وتدريس الأطفال وأداء مهام المنزل اليومية. أثّر ذلك على أداء وتركيز عدة نساء. كذلك تم الضغط على النساء لتبديل عقودهنّ الدائمة وتعرضهنّ للتقييم غير المنصف أو للإقالة القسرية أو تحويلهنّ إلى مكاتب التأمين. شعرت العديد من النساء تباعًا أن جهودهنّ غير مرئية، إن كان على صعيد الأسرة أو العمل. شكّل ذلك توترًا يتعلق بضبابية المستقبل، وتأثّر تقديرهنّ الذاتي إذ شعرت المرأة غالبًا بالاستنزاف على عدة أصعدة. الآن، وبعد عدة أشهر، تشعر عدة نساء بإجهاد ما بعد الكورونا.
سحابة صيف بعواقب غير متكافئة
ربما كان للجائحة بعض الإيجابيات أيضًا. ربما كانت أكثر رفقًا بالبيئة وسمحت لبعض الأشخاص التمرّد على بنية الوقت والمكان والاستهلاك. بمعنى آخر، خففت الجائحة في بعض الحالات من بعض الأعباء المالية والاستهلاكية، ومنحت فرصة للادّخار والابتعاد عن الكماليات، مع إغلاق المطاعم والمقاهي والأسواق، وخففت أعباء التنقل. تسنّى أيضًا لبعض النساء الاستئناس بفسحة وقت وتطوير بعض الهوايات وإعادة النظر في بعض الأمور. يختلف ذلك أيضًا تبعًا لمساحة المنزل وعدد أفراد الأسرة ومدخراتهم العامة ووضعهم السكنيّ ومحيطهم العام.
زادت الكورونا من فرص العمل في بعض القطاعات مثل بعض المحلات الغذائية وخدمات الإنترنت، وتسنّى لبعض العاملات في القطاع الصحّي وفي مجال التمريض مواصلة عملهنّ وأحيانًا العودة إلى قطاع العمل. مع ذلك لم تكن الجائحة سحابة صيف على الجميع ولم تكن نصيحة "خليك في البيت" آمنة على الجميع. تردد خلال إغلاق الكورونا على مسامعي شهادة نازحة سورية تعلّق بمرارة على نصائح "البقاء في البيت" بأنها تتمنى أن يكون لها بيت تبقى فيه خلال الحجر، إذ كانت تنام في مساحة ضيقة مع غيرها من اللاجئين، بعد أن تدمّر بيتها وتشرد أبناؤها وحُرمت مع زوجها من عمل المياومة إثر الإغلاق.
انعتاق من جانب ومزيد من العزلة والضغط من جانب آخر
تعاني المرأة في عالمنا من بعض الواجبات الاجتماعية ذات الطابع التنافسيّ، إذ تتعرض لتقييم مظهرها الخارجي وسلوكها الاجتماعي ووضعها المادي. كانت الجائحة بمثابة انعتاق مؤقت من أجواء النميمة والانتقاد. في المقابل، خلقت جائحة كوفيد-19 مسؤوليات مضاعفة مع تكدّس أفراد العائلة تحت الحجر أو الشعور بالوحدة للأشخاص القاطنين لوحدهم، وعانى بعض الأشخاص من وسواس فيروس الكورونا مع حالة التهويل الإعلامي للفيروس.
فرض الحجر الكورونيّ أيضًا حالة من العزلة والضغط لضحايا العنف بأشكاله المتنوعة، مع حرمان عدة أشخاص من إمكانية الخروج وطلب المساعدة خارج نطاق الإنترنت، من مصادر الدعم المعتادة، والذي يطرح سؤال ما إن كان فيروس كورونا أكثر خطرًا على المرأة من العنف الأسري.
النساء غير المتزوجات لم يسلمن من هذا الواقع أيضًا. فرضت أزمة الكورونا تحديات خاصة من نوعها عليهنّ، وترافق فقدان الوظيفة مع شعور بعدم الأمان الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والوحدة من جانب، وبتنمّر ووصمة مضاعفة من قبل أفراد العائلة أو المحيط من جانب آخر.
هل الكورونا أخطر من العنف الأسري؟
يقتل فيروس كوفيد-19 الرجال أكثر من النساء وفقًا للإحصائيات العالمية. في المقابل، تعرضت 87 ألف امرأة حول العالم للقتل المتعمّد (العنف ضد المرأة) عام 2017، وقتل أكثر من نصفهنّ (58%) على يد شخص مقرّب (شريك أو أحد أفراد العائلة). جاء ذلك في مدونة نشرت عبر موقع "ميديوم". هذا فضلًا عن آثار التمييز والعنف الصحية والنفسية على المرأة على المدى الطويل.
في تقريرها عن العُنف القائم على النوع الاجتماعي في ظل جائحة كوفيد-19 في فلسطين، الصادر في أيار 2020، تشير مؤسسة "جذور للإنماء الصحي والاجتماعي" الفلسطينية إلى أن الأزمات وحالات الإغلاق لا تزيد من مخاطر العنف القائم على النوع الاجتماعي والعنف ضد النساء والفتيات فحسب، بل "تحدّ أيضًا من قدرة الناجيات على النأي بأنفسهنّ عن الأشخاص المسيئين لهن". يضيف التقرير إلى صعوبة تقييم مدى انتشار الإساءة مع صعوبة الوصول إلى المساعدة في ظل الأزمة وغياب الخصوصية. تصبح خدمات الاستجابة للعنف القائم على النوع الاجتماعي أقل تيسرًا خلال الإغلاق ما ينذر بتصاعد العنف الأسري. وفي استطلاع منزلي أجرته مؤسسة جذور عبر الهاتف في نيسان/أبريل 2020 على عينة عشوائية من البالغين في الضفة الغربية تضمنت 800 فلسطيني/ة تحدثوا عن تجاربهم الخاصة، ورد زيادة العنف الأسري بنسبة 19.5% أثناء الإغلاق واعتقد 70.8% أنه سيزيد مع تمديد فترة الإغلاق. ومن المحتمل أن النسب هي أعلى من ذلك وهناك احتمال تفاقمها منذ صدور التقرير.
في الوقت الذي جلس فيه عدة رجال في المنزل أيضًا وساهم بعض الرجال في رعاية الأطفال، فإن أعباء العمل المنزلي ورعاية الأطفال وتدرسيهم على الإنترنت والطبخ وقعت أكثر على عاتق النساء. ووفقًا لشهادات عدة نساء حول العالم فإن وجود الزوج في المنزل وشعور الزوج بعدم الأمان الوظيفي زاد من المشاحنات والخلافات الزوجية وترافق أحيانًا مع زيادة في حالات العُنف الأسري ضد المرأة من قبل الأخوة أو الأب أو الأولاد والأقارب.
شكلت بعض المفاهيم الاجتماعية الذكورية ضغطًا على الرجال أيضًا، إذ عانى بعض الرجال أيضًا من انتقادات متعلقة بالوضع الاقتصادي والمكانة الاجتماعية، وشعروا بفقدان السيطرة وصعوبة تأمين المستقبل بعد تعطّل عدة قطاعات إنتاجية نتيجة للحجر وتعرّض عدة رجال للإقالة أو وعود بالإقالة. شعر عدة رجال بضغط متزايد في المنزل وصعوبة اللحاق بركب الواجبات المادية وضبابية المستقبل ومحدودية القدرة على الترفيه عن النفس خارج المنزل. يأتي ذلك في ظل واقع من البطالة والبطالة المقنّعة في عدة بلدان حتى قبل بدء الكورونا. ووفقًا لاستطلاع مؤسسة "جذور" الفلسطينية فإن أكثر العوامل ضغطًا على الرجال والنساء خلال الإغلاق كانت: "بقاء أفراد الأسرة في البيت طوال اليوم، والابتعاد عن الأصدقاء والأقارب، والوضع المالي الصعب، وعدم الخروج إلى العمل، والأعمال المنزلية، وبقاء الأطفال في المنزل، ومساعدة الأطفال في الدراسة. وكان الوضع المالي الصعب أكثر العوامل الضاغطة".
البقاء للأقدر تقنيًّا
حُرِم العديد من الأشخاص من ذوي الأجور المتوسطة والمتدنية والعمل اليدوي غير القائم على الإنترنت من وظائفهم بشكل قطعي. كذلك زادت ضغوط العاملين عن بعد وعبر الانترنت. كان البقاء أحيانًا للأقدر تقنيًّا. فرضت الأزمة ضغطًا نفسياً واقتصادياً واجتماعياً على الأفراد الذين لا خلفية لهم بتطبيقات الانترنت المتطورة أو التعليم عن بُعد، وتأثّر أطفالهم من حيث الواجبات الدراسية والاتصال عن بُعد، ما خلق فجوة تشابكت مع الوضع الاقتصادي مثلًا حين يزيد أفراد الأسرة ولا يسمح وضعهم الاقتصادي بتأمين عدة أجهزة للأطفال لمتابعة التدريس عن بُعد.
في أوروبا أيضًا
تأثرت الأمهات والنساء في المجتمعات الغربية بشكل كبير، إذ يتوقع المجتمع هناك من المرأة أن تتصرف بشكل "مهني" في سياق العمل، وعلى قدم وساق مع الرجل، ولا يتوقع منها أن تشكو بما أنها "متساوية" افتراضيًّا مع الرجل. غير أنه في سياق إغلاق الحذضانات وعمل النساء مع وجود الأطفال في المنزل تأثّر أداء عدة نساء العملي وما زلن يعانين من إجهاد ما بعد الكورونا ويدفعن عواقب ذلك. حتى قبل انتشار جائحة الكورونا، كانت رواتب النساء هي أقل من رواتب الرجال في نفس المنصب في عدد من دول الاتحاد الأوروبي، ووفقًا للاتحاد الأوروبي فإن أجر المرأة هو أقل من أجر الرجل على ساعة العمل على الوظيفة نفسها بنسبة 14.1% في المعدّل.
في بعض الدول تأثرت الأقليات المهاجِرة واللاجئة من حيث اللغة وسباق الاندماج والفجوة الطبقية. تأثر أداء المهاجرين واللاجئين في الامتحانات وفي المستوى الدراسي بعد عامين من الحرمان من الاختلاط والدراسة في الميدان ومن صعوبة متابعة تقنيات الانترنت وصعوبة التدريس عن بُعد والالمام باللغة من قبل عدة أهالي من خلفيات مهاجرة ولاجئة، ومن المحتمل أن نلمس آثار الفجوة على المدى البعيد.
السقف الزجاجي أكثر وضوحاً
"السقف الزجاجيّ" تجلّى خلال الجائحة بشكل ملموس، إذ تبين أن إمكانية نيل المرأة للفرص تختلف عن الرجل في عدة قطاعات، خاصة حين يتشابك ذلك مع عدم التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي واللغوي والتقني. ما وراء خلفية الشعارات الافتراضية الزاهية التي يشاركها أيضاً من ينتهك حقوق المرأة ويضع العراقيل أمامها، هناك نساء مجهدات يتحدين وخزات التأنيب الكورونيّ من كل صوب ويبحثن عن مساحة.