إحداث الجدل، هو أكبر الشروط وأولها في الطريق إلى النجاح في عالم الموسيقى اليوم، وهذا ما حققته أغنيات روبي الجديدة، فثمة من يضعها في قالب مواصلة الإغواء عبر كلمات بلا غاية ولحن بلا قواعد، وهناك في المقابل من يرى أنها قوالب مثيرة تستحق ما حققته من استماعات، وفي المسافة بين الرأيين، يجدر البحث في جذور هذا اللون الغنائي وفروعه.
منذ انطلاقها أصدرت روبي ألبومين، الأول عام 2004 وهو "إبقى قابلني"، وقد احتوى على 6 أغنيات، ما زالت تلمع منها أغنيتان في ذاكرة المستمع، هما "ليه بيداري كده" و"إنت عارف ليه"، وقد أسهم الجدل حينها أيضًا برفع مستوى انتشار هاتين الأغنيتين، فمن انتقادات أحمد فؤاد نجم لجرأة الكليبات، إلى منع نقيب الفنانين السوريين آنئذ صباح عبيد لروبي من الغناء في سوريا، وغيرها من المواقف، اتخذت روبي طابعًا يؤطرها في نطاق الجرأة أو البذاءة بحسب تعبير الفنان صباح عبيد، وهذا الطابع سيؤثر لاحقًا على مسيرتها، عبر رفض شريحة ليست بالهينة التعاطي مع منتجها الفني، روبي أتبعت هذا الألبوم بآخر بعنوان "مشيت ورا إحساسي" عام 2007، وحقق نجاحًا ربما كان أقل من سابقه لكنه حافظ على وجودها، قبل أن تختفي من ساحة الغناء، وتتفرغ للتمثيل.
هذا الابتعاد، المتشح بنجاحات سينمائية ودرامية استقطبت في آخر الأمر مخرجين كبار كحاتم علي، الذي أنهى مشواره الفني بمسلسل "أهو ده اللي صار" من بطولة روبي، منح الأخيرة دفعة قوية، وسعت من خلالها شريحة متابعيها، فضمت إليهم أولئك الذين رفضوها آنفًا، وقد استغرق الأمر 14 عامًا، إلى أن عادت مغنية، وقد تغيرت خلالها ظروف كثيرة، على مستوى الغناء العربي، وطرق ترويجه عبر الفيديو كليب أو غيره، لتصبح روبي أكثر قدرة على الوقوف أمام جمهورها سواء كان الطابع ذاك ما زال ملتصقًا بها، أم أزاله تغير الظروف.
"حتة تانية" ألبوم روبي الثالث الذي لم تختر العودة به، إنما اختار أغنياته المنتج وليد منصور، وهو الوحيد الذي أفلح في إقناع روبي بالعودة بحسب تصريحاته، اختار 7 أغنيات خلال شهر وتم تسجيلها، بعد أن وافقت روبي عليها، وكانت قد تركت القرار لمنصور، وحتى الآن صدرت 5 أغنيات من الألبوم، شكلت ملامحه بصورة تتيح الحديث عنه.
أغنية "حتة تانية" من كلمات عزيز الشافعي وألحانه، امتازت بالجملة المدورة، كلامًا ولحنًا، وأعادتني شخصيًّا إلى زمن الأغنيات الخفيفة التي لا تستخف بذائقة المتلقي، فمن حيث الثيمة لا تنطوي الأغنية على فكرة قصيّة، لكن من حيث الصنعة فإنها تعبر عن احتراف وأصالة، وهذه الخصيصة بدت في بعض طقاطيق وأغنيات الكبار جلية، وحتى لا نعقد الأمور بإمكاننا مقارنتها بأغنية: "المية تروي العطشان" لمحمد عبد الوهاب، أو "ما قلي وقلتلوا" لفريد الأطرش، هذا لون أصيل وحاضر في التاريخ، يعتمد على شكل القطعة الفنية لا على مضمونها.
والحق أن الشافعي أفلح في صوغ كلمات، تتناسل من أخرى عبر الجناس إذ كتب:
جالي بهداوة.. داوى
جرح قديم وجدد روحي
راحت مني
نن عينه خدني غصب عني، هوبا
علم علامة جوة قلبي سابلي بصمة
بسمة
العيون ورسمة
الشفايف
شايف الحلاوة
السر في هذه الأغنية التي غدت تعرف بالـ"هوبا" أن اللحن جاء جناسيًّا أيضًا، إن أتاح لنا المتخصصون استخدام هذا التعبير، فالجملة اللحنية ترد على أختها ردَّ الجملة الشعرية أيضًا، مما خلق حالة هياج روحي متعلق باللحن وعقلي متعلق بالكلمات، وقد اتخذ الشافعي من الإيقاع الشرقي البلدي ميزانًا للحنه.
أما الموزع توما، فقد حجز حصة كبيرة من العمل عبّر عنها بخفض الموسيقى طوال الأغنية لصالح صوت روبي الذي ما زال كما عرفناه ضئيلًا ورشيقًا، يستطيع أن يلبي تطلعات الملحن، بأداء فيه شيء من التلاعب الجميل، وخفض من صوت الموسيقى أيضًا لصالح الإيقاعات المركبة من جهة، ولصالح صولو المزمار المتكرر كلازمة موسيقية في الأغنية من جهة أخرى، ليأتي واضحًا بين الكوبليهات ضمن الفراغ الموسيقي الذي صُنع عمدًا.
على الوتيرة ذاتها جاءت أغنية "قلبي بلاستيك"، من كلمات وألحان محمد يحيى، لكنها اشتبكت مع مشكلات اجتماعية بمواكبة طريفة، إذ أتت على الخيانات عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع الأصدقاء والمقربين، بشكل كوميدي، يعيد إلى الذاكرة أغنية المونولج كلون غنائي شارف على الانقراض عبر القوالب والموضوع وبعض الكلمات الشعبية التي ما زالت رائجة، وفي لحن خفيف قادر على قول الجملة قولًا لا غناء، تمكنت روبي من تجسيد الموقف والشعور:
مش هحب تاني أيوه تاني.. قلبي بلاستيك
أصله أناني أه آذاني و طلع فستك
خد مني فرحتي وحناني ودنيتي راح حب صاحبتي وطلع فستك
اه منك صنف خاين وبتاع حركات كل اللي اتخان معايا يعمل لايكات
ما هو خد مني فرحتي وحناني ودنيتي راح حب صاحبتي و طلع فستك
إلى أن يقترب اللحن من أغنيات عمرو دياب في اللازمة المتكررة، ولا يعود ذلك عيبًا حين يكون الملحن نفسه صنع الشبيه والمشبه به، وقد أبدى الموزع جيزو جهدًا، كلّله بالأصوات الموسيقية الجديدة، التي أصبح الموزعون حول العالم يتسابقون على إحداثها وتحديثها، فأفلح في مقدمة الأغنية بإنتاج صوت إيقاع بلاستيكي، يتماهى مع نبض قلب بلاستيكي كما اقترحته الكلمات، وذلك عبر مزج لطيف استمر طوال الأغنية، لكن ما جرح التوزيع هو غياب الناي في محيط جملة: "أغنيهالك إزاي؟ معاها طبلة وناي"، والذي حتم وجود الناي أن الموزع ترجم الكلمات منذ البداية، لكنه استعاض عن الناي بالأوكورديون.
أغنية "أمك وأبوك" ترجمة لمقولة مأثورة عن الأصحاب وانفضاضهم في الشدائد، إلا أنها عادت لتؤكد مهارة روبي في التماهي مع الغناء الكوميدي إن جاز التعبير، بما يحيل مرة أخرى للمونولج، من كلمات مصطفى حسن وألحان محمد حمزة وتوزيع أمين نبيل، على مقام العجم القادر على دفق المرح، خصوصًا عندما يجتمع بإيقاع المقسوم والآلات النفخية الاحتفائية، الكلمات أيضًا تضمنت روحًا مرحة بما أضفى لونًا ساخرًا، فضلًا عن الاستثمار في كلمات مثل: ميكرو باص وسوستة وأليسطة وفقاقيع وواتساب، والانتقال فجأة إلى جملة كـ"المدينة الفاضلة" مما صنع أيضًا مفارقة مضحكة.
أما أغنية "لزقة خفاش" فهي تصوير لخيبة أمل فتاة في اللحظات الأخيرة قبيل أن يتقدم إليها حبيبها بطلب الزواج، حالة الكوميديا السوداء في هذه الأغنية تطورت من الفكرة والصياغة إلى اللحن والصورة الشعرية، مثل: "وجاتلي البلوه على سهوه وأنا والله مش ناقصه.. خفت لاموت من القهرة رحت متحزمة وراقصة" هذه السخرية تمامًا ما حاولت الأغنية الوقوف عليه ونجحت فيه، لكن ما يؤخذ على هذه الأغنية هو طول العبارات، مما جعلها تبدو مزدحمة بالكلام، فضلًا عن بناء الكلمات على بحرين مختلفين، المذهب على البحر المحدث، والكوبليهات على البحر الوافر، مما صنع فرقًا إيقاعيًّا أثّر على اللحن، وأخذه بالاتجاه ذاته، يضاف إلى ذلك تعبير "لزقة خفاش" الذي لا يبدو واضحًا، لولا السياق.
أغنية "أنا لو زعلانة"، قد تكون الأعلى صنعة ودفقًا حسيًّا بالمفهوم الكلاسيكي، من كلمات حسام سعيد وألحان خالد حلمي، اتخذت من الطابع الرومنسي التقليدي قالبًا لها، أكده توزيع أحمد إبراهيم، المبني على الجيتارات والإيقاعات الوترية أو الكوردات، وقد حظيت الأغنية بفيديو كليب من إخراج مصطفى عامر، جاء منسجمًا مع المساحات الفارغة في التوزيع، بما جعل الكلمات تأخذ دور البطولة، وهذا سلوك أفلح فيه جميع العاملين على هذه الأغنية وقد تضمنت سردية فتاة وصلت مرحلة اليأس والفتور قبل إنهاء العلاقة. ما يؤخذ على هذه الأغنية الجدية الهامسة والثقيلة حسًّا وغصة، أنها جاءت ضمن ألبوم صاخب وساخر وربما كوميدي، حرف الأنظار عنها، أو جعلها خارج سياق مقولته.
لا يمكن إذن حسم الجدل حول ألبوم روبي الجديد "حته تانية"، ولكن الأوجه قولًا أن أغنياته مشغولة بحرفة دقيقة واعية لما تفعل، ومدركة لقدرات روبي، إذ وظفت خفة ظلها أكثر مما وظفت قدرتها الصوتية، وهذا ما وقف وراء نجاح الأغنيات، وربما هو ما يستطيع أن ينقذ مع الوقت روبي من الطابع الذي ألصقته على اسمها عبر أغنياتها الأولى.