يفترض البرنامج البحثي لانتقال القوّة أنّ احتمال نشوب الحرب يكون منخفضًا عندما تتغيَّر مستويات القوّة بين الدول القانعة، ففي هذه الحال عندما تلحق دولة عظمى بالدولة المهيمنة وتمضي قُدُمًا في تجاوزها من حيث القوة، تتقبَّل كلا الدولتين القواعد والأعراف الدوليّة المُعتمَد عليها مما يحدُّ من النزاع بينهما. فعلى سبيل المثال بينما كانت بريطانيا الدولة المهيمنة على الساحة الدوليّة في الماضي، نجحت الولايات المتَّحدة في تجاوزها لتصبح الدولة المهيمنة من غير أيّ صراع. ولكن مع اقتراب دولة عظمى تنتمي إلى الطرف غير المقتنع بالدولة المهيمنة، فقد تختلف القواعد والأعراف للدول المتنافسة، مما يزيد من احتمال نشوب الحرب، كما حصل -على سبيل المثال- بالحرب بين ألمانيا ودول الحلف أثناء الحرب العالميّة الثانية، ففي تلك المرحلة كانت ألمانيا النازيّة تنافس بريطانيا والولايات المتَّحدة من حيث القوّة، ولكن لم تتوافق مفاهيمها مع مفاهيم الدول الأخرى بخصوص النظام الدوليّ مما أدى إلى نشوب الحرب. ويتنبَّأ المنهج في الاشتباك بين الصين والولايات المتَّحدة مع ازدياد القوة الصينية التي قد تتجاوز القوة الأميركية في المئة عام القادمة.
وبالتالي، سيعتمد هذا المقال على البرنامج البحثيّ لانتقال القوّة لشرح مدى المساواة في السيادة بين الدول المختلفة، لما يتصف به هذا البرنامج من التقدميّة من منظور لاكاتوش(1).
المساواة في السيادة والنظام الهرميّ
مع استقلال كثيرٍ من الدول الإفريقيّة والآسيويّة بعد النصف الثاني من القرن الماضي، وانضمامها إلى منظَّمة الأمم المتَّحدة المؤسَّسَة على مبدأ المساواة في السيادة، قد يعتقد البعض أنَّ التمييز القانونيَّ بين الدول المُستَعمِرة والأقاليم التي كانت مُستَعمَرة قد انتهى، وهذا الاعتقاد ناتجٌ عن الاعتقاد بالتناقض بين مفهوم المساواة في السيادة ومفهوم أولوية القوى العظمى في الإطار الواحد(2)، ولعلّ أصحاب هذا الاعتقاد لا يدركون أنّ هذه المفاهيم ذات مستوياتٍ مختلفةٍ، كالجانب السياسيِّ من جهة، والجانب القانونيِّ من جهة أخرى(3).
من أجل تحديد مدى تأثير أسبقيّة القوى العظمى من الجانب السياسيّ على مفهوم المساواة من الجانب القانونيّ، يجدر التمييز بين مبدأَين في القانون الدوليّ: فالأول هو القانون الذي لا ينشأ من عدم العدالة (ex injuria jus non oritur)، والثاني هو القانون الذي ينشأ من الحقائق (ex factis jus oritur). ونظرًا إلى أنّ الدول القويّة متمكنة من تغيير الحقائق على المستوى الدوليّ من خلال قوَّتها العسكريَّة أو الاقتصاديّة أو الثقافيّة، أو مزيجٍ من هذه القوى، فإنَّ هذه الدول ستتاح لها الفرصة للاعتماد بكلا المبدأَين بناءً على مصلحتها. أمّا الدول المتوسِّطة والضعيفة -من الجانب غير القانع بالدولة المهيمنة خِصّيصًا- فإنَّ قدرتها على تغيير الحقائق على المستوى الدوليّ محدودةٌ بسبب افتقارها لمختلف أنواع القوى، وبالتالي ستعتمد بصورةٍ أكبر على المبدأ الأوَّل من القانون الدوليّ الذي يقرِّر أن "ما بني على باطل فهو باطل".
فعندما قرر العراق -على سبيل المثال- مخالفة المادة [2(4)] من ميثاق الأمم المتحدة، استخدم القوّة ضدّ سلامة الأراضي الكويتيّة في عام 1990، محاولًا الاعتماد على المبدأ الثاني مع فرض الحقائق على أمل أنَّ الدول الأخرى ستكون مستعدَّةً للاعتراف بضمها للكويت في وقتٍ لاحقٍ، وكان موقف الحكومة الكويتيَّة في المنفى متمسِّكًا بالمبدأ الأوّل الذي يرفض الاعتماد على شرعية الغزو بأي شكلٍ من الأشكال، لكونه مخالفًا للمادة [2(4)] من الميثاق. وقرَّرت الولايات المتَّحدة الأميركيَّة -التي كانت وما تزال القوّة المهيمنة على الساحة الدوليّة- رفض الاعتراف بضم العراق للكويت، لذا استخدمت قوتها العسكريّة لطرد القوات العراقيّة من الأراضي الكويتيّة، وبذلك فشلت العراق بوصفها دولةً متوسِّطةَ القوَّةِ في فرض أمرٍ واقعٍ بضمِّهَا الكويت. وبالمقارنة مع الغزو الأميركيّ للعراق عام 2003 -الذي يعدُّ انتهاكًا للمادة [2(4)] من ميثاق الأمم المتحدة أيضًا- فقد اعتمدت الولايات المتَّحدة على المبدأ الثاني كما فعل العراق في عام 1990، والفرق بين انتهاك العراق وانتهاك الولايات المتحدة للمادة [2(4)] من الميثاق اعتمادُ المجتمع الدوليّ على نتائج انتهاك الولايات المتَّحدة مع رفض نتائج انتهاك العراق، وهكذا نجد أنَّ دول العالم تعترف رسميًّا بالنظام السياسيّ في العراق المرتبط بالغزو الأميركيّ، أي أنَّ الواقع الذي فرضته الولايات المتَّحدة أدى إلى اعتراف بقيَّة دول العالم به اعترافًا قانونيًّا، بينما فشلت العراق في الوصول إلى النتيجة نفسها عند غزوها الكويت.
وبالتالي نستطيع الإشارة إلى قدرة الدول القوية على تجاهل القوانين التي تُقيِّد مصالحها. سنجد، على سبيل المثال، أن المادة [27(3)] من الميثاق تنص على التالي:
تصدر قرارات مجلس الأمن في المسائل الأخرى كافة بموافقة أصوات تسعة من أعضائه يكون من بينها أصوات الأعضاء الدائمين متفقة، بشرط أنه في القرارات المتخذة تطبيقًا لأحكام الفصل السادس والفقرة 3 من المادة 52 يمتنع من كان طرفًا في النزاع عن التصويت.
يتضح من خلال ممارسة الأعضاء الدائمين لدورهم في مجلس الأمن أنهم غير ملتزمين بالامتناع عن التصويت في النزاعات التي هم طرف فيها(4). ويشير العيساوي إلى افتقار الميثاق إلى التفرقة بين النزاع (dispute) والموقف (situation) وقد يُمَكِّن هذا الغموض القانوني الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن من التصويت على النزاعات التي هم طرف فيها على أنهم صوتوا لموقف وليس لنزاع(5). وحتى لو لجأت الدول الضعيفة للمحاكم الدولية لإثبات المخالفة التي تقوم بها الدولة القوية، قد تواجه الدول الضعيفة صعوبة باستخدام القانون الدولي لضمان تحقيق النتيجة القانونية خاصة إن كانت النتيجة تتعارض مع مصلحة الدولة القوية.(6)
ومن الواضح من خلال هذه المقارنة المختصرة أنّ الدول المهيمنة والعظمى قادرةٌ على الالتفاف على القوانين التي تُقيِّد مصالحها بأسلوبٍ غير متاحٍ للدول المتوسِّطة والضعيفة، وهي تكتسب تلك القدرة من مكانتها على هرم القوَّة، وتمكُّن الدول المهيمنة والعظمى من الاعتماد على المبدأ الذي يتيح لها إنشاء القوانين من خلال فرض أمرٍ واقعٍ؛ يدلُّ على عدم المساواة بينها وبين الدول المتوسِّطة والضعيفة من حيث سيادتها الخارجيَّة.
وفيما يخص الدول المتوسّطة والضعيفة من الجانب القانع، فيجب أن نميِّز بينها وبين الدول نفسها من الجانب غير القانع فيما يتعلّق بالسيادة، ويتضح بهذا التمييز أنَّ القوى العظمى والمهيمنة قد تسعى للحدِّ من تطوُّراتٍ معيَّنةٍ في داخل إقليم الدول المتوسّطة والضعيفة غير القانعة، مع تجاهل التطوّرات نفسها في إقليم الدول القانعة. فعند مراجعة تطور البرنامج النوويّ في إيران والاحتلال الإسرائيلي مثلًا، وهما تعدَّان دولًا متوسّطة القوّة من الجانبين القانع (إسرائيل) وغير القانع (إيران)، يتَّضح أن القوى المهيمنة والعظمى تسعى للحدّ من قدرة إيران على تطوير برنامجها النوويّ من غير الانتباه للبرنامج الإسرائيليّ، وبالتالي تتجاهل الولايات المتَّحدة الكم الكبير من الأسلحة النوويّة لدى إسرائيل(7)، مع محاولاتها للحدِّ من قدرت إيران على تطوير تلك الأسلحة نفسها(8)، وإمكانيّة القوّة المهيمنة والقوى العظمى في الضغط على بعض الدول بشكل انتقائِيّ للحدِّ من بعض التطورات الداخليّة دليلٌ على عدم المساواة في السيادة الداخليّة.
ومع ذلك، علينا أنْ ندرك أنَّ الأمثلة السابقة تخصُّ الجانبَ الأمنيّ، فالعلاقاتُ الدوليّةُ التي لا تخصُّ الجانب الأمنيّ قد لا تستدعي الدولة المهيمنة والدول العظمى إلى أنْ تستغلَّ مكانتها في أعلى الهرم للتأثير على سيادة الدول الضعيفة، وهذا يعني أنَّ المساواة في السيادة قد تُرَسَّخ بصورةٍ أفضل في القضايا غير الأمنيّة، وبإمكان من يريد التركيز على نجاح فكرة المساواة في السيادة أنْ يبحث في تلك المجالات، مع العلم بأنَّ الدول القويَّة ما تزال متمكِّنةً من التأثير على سيادة الدول الضعيفة بوسائل أخرى غير مرتبطة بالأمن، كالمساعدات المشروطة(9). ونستطيع الاستعانة بالنماذج التالية لشرح استمرار اعتماد الدولة المهيمنة والدول العظمى على مبدأ المسواة أو مبدأ الأسبقيَّة بناءً على ما إذا كانت المسألة المطروحة تتعلَّق بالأمن، فالمباراة التالية (الرسم التوضيحي 2) تعكس الفائدة للدول القويَّة عند مواجهتها أمورًا أمنيَّةً تتعلّق بالدول الضعيفة، وإذا اعتبرنا الأرقام عاكسةً للمال، وأن الدول تتبنى قرارات عقلانية، فستكون نقطة التوازن (بالحد الأحمر) مستقرَّةً على تعاون الدول الضعيفة مع الدول القويّة التي تقوِّض من المساواة.
[رسم توضيحيّ 1]
أمّا فيما يخص التفاعلات غير المرتبطة بالأمور الأمنيّة بين الدول القويّة والضعيفة، يمكننا اعتبار موقف الدول القويّة غيرَ مبالٍ في شأن المسhواة والأسبقيّة، وبالتالي قد تلجأ الدول القويّة لأيٍّ من تلك القرارات متى ما شاءت، وفي هذه الحال توجد نقطتان للتوازن تكون فيها الدول الضعيفة مستعدَّةً للتعاون بغضِّ النظر عن سياسة الدول القويّة (الرسم التوضيحيّ 2). وفي الواقع، قد تميل الدول القوية إلى الالتزام بفكرة المساواة بقدر الإمكان حتى تتمكن من التعاون مع الدول الأخرى بحسن نية لغرض توطيد العلاقات التجارية.
[رسم توضيحيّ 2]
وفي الختام، يمكننا الاعتماد على فكرة أسبقيَّة القوى العظمى للتحليل السياسي والقانوني، مع العلم أن هذا المفهوم ينطوي على فكرة المسواة في السيادة على المستويات التي غالبًا ما تتعلق بالأمور غير الأمنية، كالعلاقات التجارية.
[للاطلاع على الجزء الأول من هذه المقالة].
الهوامش
(1): ويمكن اعتبار من يرفض الإطار اللاكتوشي لتحليل العلاقات الدولية في أنه (Lakatos intolerant).
(2): Simpson, for example, described how the 1814 Vienna Congress witnessed the “[…] clash of two ideals – the supremacy of Great Powers and the equality of states – translated into a dialogue between the advocates of management through legalized hegemony and those who preferred a more egalitarian, representative system of European governance.” See Simpson, G. (2004). Great powers and outlaw states : unequal sovereigns in the international legal order. Cambridge: Cambridge University Press. P. 93. Klein also explains, “[o]pposed to the idea of great-power primacy is the concept of sovereign equality.” See Robert A. Klein, Sovereign Equality among States: The History of an Idea. Toronto; Buffalo: University of Toronto Press, 1974. P. 93.
(3): As Prager explains “[G]reat power assertions of authority and the philosophical and legal principle of the sovereign equality of nations [should not be viewed as] chronically conflicting on the same conceptual level in the same universe of discourse. […] great power politics and the legal notion of sovereign equality do, in fact, co-exist, the latter in doctrines of international law[…] ” See Carol A. L. Prager. Canadian Journal of Political Science / Revue Canadienne De Science Politique 9, no. 1 (1976): 179.
(4): Smith, Stephen Eliot. “Reviving the Obligatory Abstention Rule in the Un Security Council: Reform from the inside out.” The New Zealand Yearbook of International Law 12 (2014): 19.
(5): محمد حسين كاظم العيساوي. "حق النقض (الفيتو Veto) في مجلس الأمن دراسة من منظور القانون الدولي." مجلة أهل البيت عليهم السلام، العدد 11، (2010)، ص243.
(6): See, for example, Case Concerning Military and Paramilitary Activities In and Against Nicaragua (Nicaragua v. United States of America); Merits, International Court of Justice (ICJ), 27 June 1986.
(7): Revesz, Rachael (September 16, 2016). “Colin Powell leaked emails: Israel has '200 nukes all pointed at Iran', former US secretary of state says”. The Independent.
(8): انظر مثلًا خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA).
(9): راجع مفهوم "الاستعمار الجديد" أو الـ(neocolonialism).
المصادر
محمد السيد سليم، تطور السياسة الدولية: في القرنين ال19 وال20. الطبعة الرابعة. القاهرة: دار الفجر، (2014).
محمد حسين كاظم العيساوي. "حق النقض (الفيتو Veto) في مجلس الأمن دراسة من منظور القانون الدولي." مجلة أهل البيت عليهم السلام العدد 11 (2010) :235-253.
رشيد حمد العنزي، القانون الدولي العام: ودراسات خاصة […]، (الكويت، 2018).
بدر حسن شافعي، "قراءات نظرية: تسوية الصراعات والدبلوماسية الوقائية" المعهد المصري للدراسات، 2016.
Case Concerning Military and Paramilitary Activities In and Against Nicaragua (Nicaragua v. United States of America); Merits, International Court of Justice (ICJ), 27 June 1986.
Elman, Colin, and Miriam Fendius Elman. “How Not to Be Lakatos Intolerant: Appraising Progress in IR Research.” International Studies Quarterly 46, no. 2 (2002): 231-62.
Feyerabend, Paul. “Consolations for the Specialist.” Chapter. In Criticism and the Growth of Knowledge: Proceedings of the International Colloquium in the Philosophy of Science. Edited by Imre Lakatos and Alan Musgrave. Cambridge: Cambridge University Press, 1978. Pp. 197–230.
Kim, Woosang. “Alliance Transitions and Great Power War.” American Journal of Political Science, vol. 35, no. 4, 1991.
Robert A. Klein, Sovereign Equality among States: The History of an Idea. Toronto: University of Toronto Press, 1974.
Lakatos, Imre. “Falsification and the Methodology of Scientific Research Programmes.” Chapter. In Criticism and the Growth of Knowledge: Proceedings of the International Colloquium in the Philosophy of Science. Edited by Imre Lakatos and Alan Musgrave. Cambridge: Cambridge University Press, 1978. Pp. 91-196.
Lemke, D. Multiple Hierarchies in World Politics. Ph.D. Dissertation, Vanderbilt University; 1993.
Organski, A F. K, and Jacek Kugler. The War Ledger. Chicago: University of Chicago Press, 1980. Pp.16-17.
Peter B. Rutledge, “Toward a Functional Approach to Sovereign Equality,” Virginia Journal of International Law 53, no. 2012 Symposium Issue (2012): 181-200.
Prager, Carol A. L. Canadian Journal of Political Science / Revue Canadienne De Science Politique 9, no. 1 (1976).
Revesz, Rachael (September 16, 2016). “Colin Powell leaked emails: Israel has '200 nukes all pointed at Iran', former US secretary of state says”. The Independent. At: https://www.independent.co.uk/news/world/americas/colin-powell-leaked-emails-nuclear-weapons-israel-iran-obama-deal-a7311626.html
Simpson, G. (2004). Great powers and outlaw states : unequal sovereigns in the international legal order. Cambridge: Cambridge University Press.
Smith, Stephen Eliot. “Reviving the Obligatory Abstention Rule in the Un Security Council: Reform from the inside out.” The New Zealand Yearbook of International Law 12 (2014): 15–27.
Toft, Monica Duffy. “Population Shifts and Civil War: A Test of Power Transition Theory.” International Interactions 33 (2007).
Vasquez, John A. “The Realist Paradigm and Degenerative versus Progressive Research Programs: An Appraisal of Neotraditional Research on Waltz's Balancing Proposition.” The American Political Science Review, vol. 91, no. 4, 1997, pp. 899–912.
Walt, Stephen M. The Origins of Alliance. Cornell University Press, 1987.
Westman, Robert S. The Copernican Achievement, edited by Robert S. Westman. University of California Press Berkeley 1975.