في مجموعة "الآباء يركضون" للكاتبة ليندا حسين الصادرة عن دار أثر/ الدمّام 2021، يظهر الصبيّ رضى في قصّة "ميسّي" في استراحة للمسافرين ليلاً كعادته، لذلك تصعب رؤيته أو تمييز وجهه. يجمع أوساخ المسافرين، يضعها في أكياس سوداء، ثقيلة يحملها إلى صدره النحيل ليكوّمها في عربة أمامه، تعلو الأكياس إلى أن يختفي خلفها، ويجرّها إلى الساحة الخلفيّة. وهناك، يشعل رضى أوراقاً وأعواداً ليتدفأ ويستريح. ثمّة شاشة تعرض اليوم مباراة لكرة القدم، وفيها: "صبيّ اسمه ميسّي، كلّما راقص الكرة يتنهّد رضى، وكلّما أحرز هدفاً، يتدافع رضى مع اللاعبين ليمسح على شعره." هذا الميسّي نبيّ "يهمس رضى لنفسه وهو يشعر بالطمأنينة والرضى والسعادة، وفي عينيه دموع كدموع من انتهى لتوّه من صلاة الفجر." ظاهريّاً، تبدو القصّة بسيطة، إنّما في جوهرها تعجّ بأسئلة لن تريح القارئ المستمتع! فمن الذي ينتبه إلى رضى وأمثاله؟ ألا يرمز الليل على ما يعتّمه البشر؛ على ما لا يرغبون في رؤيته لعجز أو لا مبالاة؟ لماذا يعمل رضى الصبيّ اليافع، وفي ظروف سيّئة؟ من يعيل؟ ومن أين له في عتمته وبرده حنانُه على الآخرين؟ ألا يكمن في اسم "رضى" رضى الصبيّ بواقعه الموجع كقدر؟ أليس في زمن الحدث المضارع/الحاضر استمراريّة لهذه الطبقيّة اللا إنسانيّة؟ ألا من نهاية لها؟ على هذه الوتيرة تسير قصص المجموعة عامّة، صاغتها ليندا حسين بدقّة مدروسة، وعرضتها ببساطة آسرة، وبمخاتلة، تمتّع القارئ، تبلبله وتقلقه، وتوجعه أغلب الأحيان.
تتميّز القصص بالجدّة والابتكار في التقاط زوايا جزئيّات الأحداث، والإيجاز والتكثيف. أمامنا ستّ وخمسون قصة في مئة صفحة! ترتكز القصص على أسس فنيّة تندرج ضمن إطار ما أسماه الأديب والناقد إدوارد الخرّاط "الحساسيّة الجديدة" ويعدّها أحد أوجه الحداثة في الأدب، من بين سماتها: كسر رتابة السرد، تغييب الحدث والبدء بلحظة تأزم الشخصيّات وتصوير جزئيّاته، الإيجاز والتكثيف، شدّة التركيز، ارتباط اللغة بماديّة أو موضوعيّة العالم ارتباطاً وثيقاً، وجنوحها نحو الشعريّة أحياناً وقد تتحوّل إلى القصّة القصيدة، العودة إلى الطفولة لا لإعادة تركيب لعالم منقبض وذكريات بائدة، بل هو سعي لمعرفة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالكاتب الآن، وغيرها. سمات تتسم بها قصص ليندا حسين بامتياز، إنّما تتصف قصصها أيضاً بالحداثة في أحد جوانبها، هو تداخل الفنون المختلفة في السرد أحياناً كثيرة. كما أنّها ترفل بالسخرية وخفّة الروح، الأمر الذي يسجّل للكاتبة بجدارة وغبطة، لندرتهما في الكتابات النسائيّة العربيّة عامّة. وفي ذلك تساؤل يستدعي النقّاد للبحث والإجابة عنه.
ترصد القاصّة لحظة من حيوات الناس؛ نساء ورجالاً وأطفالاً. زاخرة قصصها بالشخصيّات والحكايات والهواجس المختلفة، يصعب حصرها هنا. وبلغة أنيقة مقتصدة ومحايدة، أحياناً تجنح إلى الشعريّة غير المقصودة بذاتها يحكيها ساردان بالتناوب: ضمير المتكلّم المفرد، وغائب عليم بكلّ شيء. تجري أحداثها في زمنين، الماضي والحاضر، وفي أمكنة سوريّة، منها ورد ذكر مدينة اللاذقيّة في قصّتين، وأخرى في ألمانيا حيث كانت ليندا تتابع دراساتها العليا، قبل الحرب السوريّة.
تتالى الحكايات بعفويّة ورشاقة سرديّة عذبة، وبحفاظ مكين على وحدة الانطباع والتأثير. ترمز، تصرّح وتوارب، تخاتل وتشاكس بما تبطنه من دلالات. تقدّم أحياناً أخبار الناس في سطر أو أكثر قليلاً، وسرعان ما تصعّد الأخبار باقتدار إلى سويّة فنيّة، مشنشلة بالصدق وبانفعالات لطيفة أو وجيعة مؤثّرة. قصص رقيقة كالورد، وواخزة كأشواكه!
واسع حيّز المرأة هنا. نلقى نساء كثيرات بمختلف أعمارهن، أوضاعهن الاجتماعية، مستوياتهنّ المعرفيّة، وخبراتهنّ الحياتيّة. فالمرأة في قصّة "عجوز الطابق الثالث" خبرت الحياة، وفقدت أحبّة بين موت وهجرة، لن يزعجها فقدانها لحبل البامياء وقد أتعبها إنجازه، علّقته على الشرفة ليجفّ، فأذهبته عاصفة طارئة! إنّها: "الآن، بتجاعيدها الراضية تجلس على الشرفة، تحتسي قهوتها بسلام، وتلوّح للعابرين." وفي القصّة الظريفة "شؤون أمينة المكتبة" تأزّم العنوسة أمينة المكتبة وتتعسها، وترفع جداراً بينها وبين العالم والحياة. تذهب إلى المدرسة على بعد أربعة أمتار من بيتها، تأتي إلى الدوام وتخرج قبل الازدحام لأنّه يخنقها. تشغل غرفة المكتبة، لا أحد يزورها، فالمكتبة خالية من الكتب! تلمّح القاصّة إلى واقع حال مكتبات مدارسنا المخزي عامّة: "حتّى ظنّت الطالبات أنّ في كلّ مدرسة غرفة مكتبة خالية من الكتب، تشغلها امرأة غير متزوّجة وقليلة الكلام!" ورغم مراعاة الطالبات لحالة أمينة المكتبة، فقد حدث مرّة أن أرتها إحداهنّ صوراً لعرس ما، فتحلّ الكارثة بالعانس، إنّها تعرف أنّهن ينلن منها لعنوستها، لتتمسّك أكثر بشأنها الوحيد في حياتها: "هو أن تتجنّب هذا الخوف الرهيب. أن تحمي نفسها من هؤلاء الذين لا يمكنهم التحرّك إلّا على هيئة سرب أو قطيع، أوجيش جرّار." وفي قصّة "مزهريّة في غرفة الجلوس"، نلقى مايا العازبة لحظة تضع ثلاثين زهرة بيضاء، بعدد سنين حياتها، في مزهريّة العائلة، حيث: "يحلو لوالديها كثيراً أن يحتسيا القهوة الصباحيّة وهما يمتّعان مرآهما بالزهور..." لا تشغلهما أحاسيس مايا أو: "جسدها البضّ كأزهار زنبق يتفتّح." قصّة رقيقة تنثّ رائحة زنبق وعشق يتمنّاه القارئ لمايا.
بين القصص مسارُ المرأة الجديدة منذ إرهاصاتها الأولى حتى انطلاقتها وصولاً إلى اليوم، تأثّراً بالحركات النسويّة العالميّة! يبدأ المسار بفتون خالة الساردة، في قصّة "نساء العائلة"، إحدى القصص الجميلة التي تعود فيها القاصّة إلى الطفولة. فالساردة باتت شابّة، ما إن رأت أشجاراً خضراء عالية بأزهار بنفسجيّة رقيقة، ظهرت مؤخراً في المدينة، وأصلها من أمريكا الجنوبيّة، تبثّ بخفوت أغاني نساء تلك القارّة، أرسلتها لنسائنا اللواتي مسّهنّ الجنون! حتى أدركت الساردة أنّ ما فعلته خالتها منذ عشرين عاماً بارتدائها تنّورة بنفسجيّة وسترة خضراء من تصميمها، وأثار استهجان نساء العائلة وسخريتهنّ من ذوقها الغريب المضحك بحسب قانونهم، لم يكن خرقاً للقوانين، بل كانت الخالة سابقة للأزمنة والجغرافية. كانت عاشقة! والعشق محرّم في دستور العائلة! كانت قوّة تضجّ داخل الخالة: "هي القوّة ذاتها التي تجعل الفراشة تطير، والسمكة تسبح، والصوص ينقر قشرة البيضة ويخرج للوجود." رغم أنف الدساتير البطريركيّة التي تخضع لها نساء كثيرات وتكرّسنها! وفي القصّة المدهشة، وعنوانها المشاكس "كي يبقى كل شيء على ما يرام"، مشهد وحيد يبدأ بنهايتها. يتكرّر التلاعب بالزمن في بعض القصص لكسر رتابة السرد، وتأجيج التشويق. تبدأ القصّة بلحظة التأزّم وصدمة الابنة أمام أمّها المتكوّمة على الأرض. ثمّ تعود لتبيّن السبب. كانت الأمّ تطارد ابنتها تلك في الشارع. فالابنة مصمّمة على الرحيل عن البلاد كلّها، هرباً من هذه الأمّ القاسية والحنون التي هدرت حياتها في تربية أولادها وحمايتهم، والخانعة لزوجها وقد سمحت له أن يكون أباً لهذه المتمرّدة! تتقاذفان بالأحذية، فتصيب البنت أمّها. لكنّ الأمّ تتابع الركض واستجدائها لتعود إلى البيت، تهدّدها، وترغّبها في قولها: "كلّ شيء في هذا البلد تقريباً على ما يرام." كلّ ذلك لأنّها تحبّها، كما صرخت لإسماع المتفرّجين على الشرفات والسطوح. في ركضها تتعثّر الأم وتسقط. تُصدم الابنة وتعود إليها تثقلها فكرة واحدة، هي أنّها في العشرينات وما يزال لديها متسع من الزمن لتنسى شعورها بالخزي، لكنّ أيّ عمر بقي لأمّها الستينيّة كي تمحو هذا العار! وإن فشلت هذه الابنة وانصاعت لتبقى أمّها على ما يرام، فإنّ ابنة أخرى في قصّة "قاتل الزهور المتسلسل"، ستنجح في تمرّدها رغم كلّ تحذيرات العائلة وتخويفها لها. تغادر منطقتها الضيّقة إلى العاصمة لتأدية دور ثانويّ في أحد الأفلام، وهناك تنجح وتطوّر ذاتها وتحقّق الشهرة. ونلحظ هنا ما يطرأ من تحوّلات في العائلة السوريّة وقد بات بعضها متسامحاً مع البنات إلى حدّ ما.
باتت للمرأة الجديدة حضورها الإيجابي المؤثّر على الصعيد الاجتماعي، الثقافي، والسياسيّ. فمثلاً، في القصّة الرمزيّة "ابنة العميد"، المذهلة بظاهرها البسيط، وغرابة الحدث وطرافته، وبسخريتها غير المباشرة من واقع حال الرياضة في مناهجنا التربويّة في الريف السوريّ عامّة. وبعمقها المواري لمقولتها الخطيرة، وهي أنّ الثبات المجتمعي الهادئ كهدوء المقابر، وقد اعتاده البسطاء والسذّج من الأهالي واستمرأوه حتّى باتوا يسخطون من الحركة الخلّاقة وصخب التطوّر، إنّما هو نتاج حكم العسكر للبلاد!
للأمومة حضورها أيضاً. ففي قصّة "ستربتيز" تخرج صبايا عازبات إلى الشارع، لافتعال "مشاحنات صامتة" بملابس تظهر أجزاء من أجسادهنّ: "فهناك ذات المؤخّرة المغرية التي تعتقد أنّ بإمكانها زلزلة العالم كلّه بهزّة واحدة منها، وهناك...، وهناك..." وحدها نبال التي في عمرهنّ، لا تحتاج لأيّ من تلك الإغراءات، وتعرف أنّها تهزمهنّ جميعاً، فلديها ما تظهره؛ طفلتها الرضيعة: "لا تخرج إلّا معها، كسلاح به تهدّد العالم كلّه." فالأمومة قوّة تستطيع بها: "أن تضرب إحدى هذه البنايات بيد من حديد وتهدمها." لكنّ الأمومة حيناً آخر متعبة وقاهرة، كحال الأم في قصّة "حمزة" البديعة، بسردها الموجز بالغ الطرافة والألم، تضحك القارئ وتبكيه، قصّة تُعصي اختصارَها.
تهجس بعض القصص بالغربة والوحدة، يكابدهما النساء والرجال معاً، في البلاد أو في ألمانيا. تبغي ليندا، من كتابتها عن أناس بلدين مختلفين، إظهار الهواجس المشتركة بين البشر جميعاً. فمثلاً، في قصّة "موسيقا" قد نجد في ألمانيا عربيّاً تؤلمه الغربة والوحشة، لا يتقن الألمانيّة مثل خوسيه العازف، هذا الذي يخفي ملامحه الكولومبيّة بقبّعته التي صارت أشهر من قبّعة غيفارا في محطة للقطارات، فلنقرأ: "حين يحزن خوسيه ينفخ في الهارمونيكا، وحين يعزف في الهارمونيكا يحصل على قليل من المال، وحين يحصل على قليل من المال يخفض رأسه قليلاً وينظر في عينيك، في مدينة لا أحد فيها غير خوسيه ينظر في عينيك." أمّا القصّة الدافئة "ترميم" فمترعة بالتعاطف الإنسانيّ، أبو جهاد السمكري، رجل سبعينيّ انكفأ عنه زبائنه لكبره. وحدها الساردة ظلّت تستدعيه، بحجّة تصليح عطب ما في بيتها، ومقصدها ترميم روحه التي صدّعتها الوحدة، وترميم روحها، فهي الأخرى وحيدة! تقول: "يسرّب لي مثل خزّان على وشك الانفجار قطرات من الحكمة، أسرّب له مثل فاكهة في أواخر صيفها ابتسامات مخمّرة بالمحبّة."
وللحرب السوريّة حضورها، إنّما اكتفت القاصّة بالتلميح إليها، هنا أو هناك، لتحديد زمن الحدث، أو كمسبّب في موت أحدهم. ومرّة، تناولتها بطرافة، حين جعلتها مصدر أمان لامرأة قصّة "شكراً، أيّتها الحرب". فالمرأة الآن في طريقها للقاء عشيقها، يهزّها الرعب من أن يعرفها أيّ ممّن حولها! فهي تنتظر زوجها الذي ذهب مع ذكور آخرين لممارسة هوايتهم المفضّلة: الحرب، فالذكور يعشقونها على عكس الإناث. فلن يكون من اللائق، حين عودته، ألّا يجد زوجته في انتظاره! في سيرها، تسقط القذائف فتشغل عنها الأعين وتؤمّن طريقها: "إنّها أمن مسافة ستجتازها في حياتها!" وهنا، تلميح إلى واقع بعض النساء اللواتي تُركن وحيدات في الحرب! لكنّ الأمر سيختلف في القصّة المؤسية "الإوزّات المتوحّشات"، فللحرب تأثيرها الرهيب على صحفيّ هارب مطلوب لخدمة العلم، يختبئ في قرية نائية حيث لا أحداث حربيّة تدور، لا شيْ غير جثامين الشبّان العائدة من المعارك، وفي سمائها، سرب إوزّات يتجه صوب الجنوب يزعق كزعيق الطائرات الحربيّة التي يراها على شاشة هاتفه، أو هو زعيق البشريّة كلّها وبكاؤها! وإذاً، لا مواضيع ساخنة أمامه ليكتبها ويرسلها إلى صحف ظهرت خارج البلاد بعد اندلاع الحرب، تلبية لدعوة الأصدقاء إنقاذاً له من البطالة والعوز! في حصاره، يكابد الصحفي النّزيه الخوف واليأس، والإحساس بالذنب إزاء موت الشباب من دونه، وإزاء تذمّر العجوز، خال أمّه الأرمل، من إقامته التي طالت عنده وسط ضيق مادّيّ مريع! ولا مفرّ! بحسب القصّة.
يعتمد السرد أحياناً كثيرة على تداخل مختلف الفنون، أحد معايير الحداثة. لتبدو قصص عدّة كلوحات تشكيليّة، مثل، "ناشيونال جيوغرافيك" هذه القصّة لرقّتها وشدّة الانفعال والأسى، تكاد تكون قصيدة أيضاً. وترد قصّة "عاطل على العمل" كما لو أنّها حواريّة مسرحيّة، تبطّن سخرية من ملّاك الصحافة الجشعين! ثمّ التصوير البارع للمشاهد القصصيّة، فالسينما موضوع طرح في قصص عديدة، وقد استفادت منها الكاتبة في تصويرها لمشاهد قصصها، لدرجة أنّنا نكاد نرى تحرّكات الشخصيّات، ونسمع أصواتها. فمثلاً في قصّة "الآباء يركضون"، نشاهد أباً، وسط الشارع فجراً، يحمل طفلته، يركض ويصرخ مفجوعاً: "تثقله خمسة وعشرون كيلو غراماً من الذكريات التي تشدّ فرحه نحو الأسفل، وتشدّ أمله نحو الخلف، وترفع إحساسه بالذنب مثل منطاد يطير فوق المدينة، لا يمكن لأحد أن يلحظ شيئاً سواه..." وفعلاً سرعان ما تشاهده صبيّة من على شرفتها: "رأت بالوناً يطير في السماء، بصعوبة وثقل. كان حزيناً بطريقة غريبة، حزيناً كما لا يمكن لأيّ بالون في العالم أن يكون."
تتجلّى في القصص صنعة فنّيّة حاذقة، تأسر القارئ فيما يكتشفه، فلا يلبث أن يهنأ بالاستمتاع حتّى تواجهه الأسئلة والتخمينات المقلقة والموجعة. تدرك ليندا حسين أيضاً كيف تخلي حيّزاً لدور القارئ، تبعاً لمقولة فولتير"أفضل الكتب تلك التي يكتب قارئها نصفها."