موسيقى الأندرغراوند
ظهرت الموسيقى البديلة أو "الروك البديل" في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، كموجة كاسحة تمردت على قوانين الشكل الموسيقي الرائج، واستثمرت تنوّع الأشكال لصوغ أصوات داخلية جديدة، تمكنت من إفراز طقوس مفاجئة، تحاكي الدواخل بشكل مغناطيسي جاذب، يشبه إلى حد بعيد شهوة الوحل، الذي ما إن يتلقف ساقك حتى يجرك إلى منازل لم تكن تتخيل أن تنزلها من قبل. إنها موسيقى الورطة، أو ورطة الموسيقى!
يمكن تبسيط هذا المصطلح من خلال تعريفه على أنه فن قائم على حرية المزج بين الأنواع الموسيقية، من دون الاحتكام إلى القوانين الكلاسيكية، التي تجعل المستمع قادرًا على تصنيف الموسيقى، وبالتالي انتقاءها على أساس مزاجه لحظة الاستماع، هي بشكل ما طريقة جديدة للزج بكل ما في ذهن الموسيقي إلى طاولة المستمع، ما سوف يضع لاحقًا مسؤولية التحليل على عاتق المستمع أيضًا، لذلك ظل هذا اللون جدليًا، وصعبًا على الطرفين، المنتِج والمتلقي، فهو في حاجة إلى طاقة كبيرة من أجل الخلط، وطاقة أخرى كبيرة معاكسة من أجل التفكيك، أو من أجل تلقي كرة موسيقية صلدة قد ترتطم بوجه المتلقي في أي لحظة، وعليه مواجهتها بفهمها ككتلة واحدة، هذا التطور لم يستقر على شكل، بل أخذ بالتوجه نحو الأعمق، حتى صار يعرف بموسيقى ما تحت الأرض، أو الأندرغراوند ميوزك، وفي هذا اللون تنقلب أحيانًا الآية، إذ تقود الموسيقى إلى الكلمة، بعكس الموسيقى الكلاسيكية والرائجة، بما يخلق ارتباطًا وثيقًا بين اللحن المغرق في التجريب، والكلمة المنحازة للغموض، بما يخلق حالة أساسها الفني رفض الكلاسيكي، فكيف لا تكون مجمل أغنياتها رافضة أو ناقدة.
ريادة بيغ سام
يمكن إعداد قائمة عالمية طويلة جدًا ممن أسهموا في إثراء هذا اللون، رواده ومن بنوا عليه، وعلى قلتهم في العالم العربي، إلا أنه ثمة أيضًا نماذج لامعة، ولارتباط هذا اللون برفض الرائج، فقد توسعت دائرته بعد ثورات "الربيع العربي"، فظهرت عدة فرق في مصر لكن معظمها لم يكمل الطريق، قبل أن تظهر فرقة "مشروع ليلى" في لبنان، وتُحدث أثرًا بليغًا في هذا اللون، وتلقى مصير غيرها من التراجع والخفوت، فلأن هذا النوع يعتمد على الإنتاج المستقل، كضريبة لرفض الرائج، يتعثر صنّاعه غالبًا في منتصف الطريق.
أما الفنان الفلسطيني سامر صوان، الذي اختار اسم "بيغ سام" لشهرته، فترتبط ريادته بأمرين أساسيين، الأول هو استقلاله من ناحية الغناء، فهو لا يغني ضمن فرقة، والثاني هو اللهجة التي اختارها للغناء، فليست مصرية ولا لبنانية، كما اعتادت الأذن العربية، إنما اختار لهجة يقول إنها فلسطينية، لكنها تخلط بين الفلسطينية والبدوية، وبعض اللهجات الأخرى، مع ذلك يقول إنه يكتب ويغني كما يتكلم.
الأهم من ذلك أن بيغ سام بدأ كسابقيه منتجًا موسيقيًا، لكنه عوض أن يذهب إلى كتّاب يصوغون له كلمة لمزاوجتها مع موسيقاه، خطا خطوة باتجاه الكلمة النابعة من ذاته الموسيقية، وهذا ما حقق شرط الانسجام الذي دفع ببيغ سام إلى الواجهة سريعًا، في تصوري.
بدأ بيغ سام طريقه في الغناء منذ حوالي 5 سنوات ضمن فريق، لكنه شيئًا فشيئًا استقل، وانتهج نقد المجتمع والذات العاطفية أساسًا في كتابة أغانيه، وأظهر دربة في صناعة موسيقى الهيب هوب، أهّلته للرواج على نحو تصاعد حتى انفجر في أغنيته "ما بتهون" التي أطلقها في أيلول من عام 2020، والتي حققت حتى كتابة هذه المادة 42 مليون استماعًا على منصة يوتيوب، عبر قناته الرسمية عليها، وقد أحسن فيها بيغ سام استثمار الـBase في صوته، ولأن هذا اللون لا يتطلب جهدًا في إطلاق حليات الغناء، أو ما يعرف شعبيًا بالعُرَب، ولا يحتاج تطريبًا، فقد نجح بيغ سام فيه برغم إمكانيات الغناء المحدودة لديه، معتمدًا على صنعته الموسيقية الجاذبة، والكلمة المختلفة التي جذبت شطرًا واسعًا من المتعطشين للنقد وللكلمة الجديدة والموضوع الجديد، وقد أتبعها بأغنية "بتهون" بعد شهرين، وقد حققت حتى كتابة المادة نصف ما حققته "ما بتهون" على منصة يوتيوب من استماعات.
الغريب أن هاتين الأغنيتين لم تحققا مجتمعتين شرطًا يلوح في البال عند قراءة اسميهما، إذ يتبادر إلى الذهن أنهما تتحاوران أو تتنقاضان، مثل أغنيتي عمرو دياب "راجعين" و"عمرنا ما هنرجع"، التي رد بثانيتهما على أولاهما، بعد ما يقرب من 11 سنة، بينما جاءت أغنيتا بيغ سام دون أي رابط.
ولعل ضبط وزن الكتابة على الإيقاع تماما في مجمل أغنيات بيغ سام، أسهم في خلق تنغيم أمكنه أن يتحول إلى صداع إبداعي، يجعل الأغنية تخلق "Loop" داخل رأس المستمع، يسيطر على مزاجه ساعات بعد سماعها، وقد تفوقت فيه أغنية "ما بتهون" على أخواتها، مما يفسر نجاحها على هذا النحو.
اكتساب الثقة وتداعياته
سيصر بيغ سام لاحقًا على لونه الجديد، الذي تُشكّل السوداوية عصبه الإبداعي، ومع ميل الناس عمومًا إلى الحزن، ستواصل استماعاته تصاعدها، وتواصل دائرة متابعيه الاتساع، لكن هذا ما سيضعه تحت عدسة المجهر، ويتركه شبه وحيد في مواجهة مسؤولية النجاح، لأنه اختار تولي مسؤولية إنتاج أعماله بشكل مستقل، كتابة وتلحينًا، باستثناء التوزيع الذي يتعاقب عليه أكثر من اسم من ضمنهم هو أيضًا.
في قائمة أغنياته الجديدة، التي تتوالى على يوتيوب منذ شهور، يرسم بيغ سام خطًا جديدًا، يأخذ صوته إلى مسافات أبعد، فيبدو أن الثقة التي أكسبها إياه نجاحه ساقته إلى تجريب جديد، تخلى عبرها عن مساحة القرار في الغناء، واتجه إلى الجواب، والتصاعد انسجامًا مع ألحانه الجديدة، هذه التجربة الجديدة، التي بدت في أغنيات مثل "إنتي السبب"، وضعته في مأزق المنافسة على تقييم أفضل مع مغنّي هذا اللون، ولأن تجربة بيغ سام قائمة على العبث بمعناه الإيجابي، فلقد خنق هذا الإطار صوته عوض أن يضيف إليه، لكن التجريب محمود دائمًا، إذ يبقى مؤشرا على الخصوبة والمغامرة.
في أغنية "شي غريب" ثمة عودة حميدة للون السابق متشحة بحليات شرقية رغم الإغراق غربًا في الغناء، وقد يكون للحن والتوزيع الذي قام عليه الموزع اللامح جوزيف دميرجيان أثر بالغ، إذ تخطف أنغام الكلارينيت في مقدمة الأغنية الإحساس نحو قلب الشرق، بما يستدعي الحلية الشرقية في الغناء.
مواصلة التجريب
في أغنية "توبة" يخوض بيغ سام مغامرة جديدة، عبر أسلوب الغناء، الذي يعيد الذهن إلى أساطير الجاز والبلوز، ولكن على موسيقى تجريبية جديدة أيضًا، وقد تكون هذه المساحة، أوفقَ من مساحة التجريب شرقًا، لأنها حافظت على مقولته الصوتية التي نجح فيها، وفي الوقت ذاته أضافت خطًا جديدًا، دون أن تظهر مواطن أقل قوة في شخصية صوته.
التجريب لدى بيغ سام سمة جيدة، تأخذه أحيانًا إلى منزلقات خطرة، لكنها دليل ثقة وبحث عن شخصية منفردة، تتشعب هذه الخصيصة بين الكتابة وأسلوب الغناء، ونوع الموسيقى من حيث المزج والتوزيع، أما في الكتابة فهو مستمر في الخوض بموضوعات ظلت لسنوات بعيدة عن مساق الأغنيات، ويغامر فيها باجتراح تعابير لم تكن غنائية سابقًا، مثل كلمات أغنية "معركة كذابة" إذ يحاول فيها جاهدًا أن يزج بفلسفته داخل هذه الأعمال الجديدة، ومع أنها تصل بالعمل إلى مكان ومكانة جديدين، إلا أن "جهاده" في الوصول يبقى واضحًا، وهذا ليس عيبًا بالمناسبة، بقدر ما هو مخاض جديد، على الأذن أن تعتاد عليه بمرور الوقت والمراكمة، وليس أدل على ذلك من أن شطرًا من الفنانين المبتدئين، بدأوا يسيرون على خطاه في الكتابة، بيد أن الحذر يبقى مطلوبًا في الطرح وتشكيله جملًا غنائية، كي لا يقع في منطقة هجينة، تجعل أعماله القادمة ذات بنية قلقة وضخمة تحد من قدرتها على التحرك بلياقة قُدمًا.
خلاصة القول إن تجربة بيغ سام تجربة مبشرة، بخط فني جديد يستطيع قول ما يريد، دون الاعتماد على القوالب الكلاسيكية أو الرائجة، تجربة قوامها المغامرة، وقذف الحقائق فنيًا على صورتها دون التعامل معها بحساسية، ولكن بذرة النجاح هذه مرهونة بحرص يجب الالتفات إليه في قابل الأعمال، كي لا تكون بذرة الانهيار أيضًا.