في العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2021، قالت لي صديقتي، وهي شاعرة من غزة، بالحرف الواحد: "ما معنى نجاتي، إذا كانت المدرسة التي تعلمت فيها كتابة أول حروفي، قد هدمت، ومركز التسوق والترفيه الذي لعبت فيه منذ طفولتي حتى كبرت وصرت أتسوق منه قد اختفى، ما نفع النجاة إذا فقدت ملامح المدينة؟
قلت لها: أفهم ما تعنين، فإنهم يقتلون ذكرياتنا كجزء من الجريمة.
وخلال العدوان الحالي منذ 2023 حتى كتابة هذه المادة، تبدى هذا الجانب من الجريمة بوضوح أجلّ، دفعني للبحث عن تأطير قانوني لهذا النوع من الجرائم، فوجدت له فصلا خاصا، تحت عنوان: "دومي سايد"، أي قتل المنازل، ووجدت خبراء في القانون الدولي، يتهمون دولة الاحتلال بهذه الجريمة فعلا، ويسوقون أدلة كثيرة على وقوعها، من ضمنها تدمير أكثر من 80% من معالم قطاع غزة وبنيته التحتية.
ظهر مصطلح جريمة "قتل المنازل" عام 2001 نتيجة لدراسة الكاتبين دوغلاس بورتيوس وساندرا سميث دورة العنف من خلال تدمير أو مصادرة "المسكن" في عمل بعنوان "قتل المنازل.. التدمير العالمي للمنزل".
حيث قدّر المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في السكن اللائق بالاكريشنان راجاغوبال في تقرير عام 2022 أن هناك "ثغرة قانونية كبيرة" في القانون الدولي، داعيا إلى الاعتراف بقتل المنازل كجريمة بموجب القانون، انطلاقا من كون التدمير المتعمد والممنهج للمنازل والبنية التحتية يجعل المنطقة غير صالحة للسكن.
وعلى أهمية هذا القانون، وما يمكن أن يبنى عليه، إلا أن كلمات صديقتي، كانت أقوى وقعا في النفس، وأشد حاجة للردع من مصطلحات القانون الجافة والمُهندَسة، ففي فضاءات الروح والعقل والقلب، تبدو الجريمة أوضح وأكثر إيلاما، وربما أكثر قدرة على الدفع نحو اتخاذ إجراءات رادعة.
فما الإنسان سوى كومة من الذكريات؟ ذكرياتنا هي التي تشكل ما نحن عليه، هي ما يرسم ملامح شخصيتنا، وخريطة مشاعرنا، وهي ما يرسم ملامح وجوهنا أحيانا، هي أيضا ما يتحكم بمواقفنا وأفكارنا، بما يحقق قناعاتنا، ويصل بنا إلى قراراتنا حتى المصيري منها، فيدافع المرء أحيانا عن مدينته لأنه قضى فيها عمره، كما حدث مع صديقتي، يدافع عن مرابع طفولته، وأصوات الأهل المعلّقة في أجوائها، وعن مواضع التقاط الصور، عن ذكرى هنا وأخرى هناك، ويدلل الناس مدنهم بالتردد على معالمها، بالحج إلى الماضي والطواف حول الحاضر، والدعاء لها بمستقبل أكثر ازدهارا وأمنا، ويسقط كل ذلك حين تسقط الملامح التي ألفوها، وترتبك المشاعر نحوها حين تمسي أثرا بعد عين، وحين يعود النازح ليقدّر موقع بيته تقديرا، ويرسم بخطاه الشارع المشوّه من جديد، ويجثو في آخر الأمر فوق حطام كان بيته أو مقهاه المفضّل، أو ساحة التئام الشمل مع الصحب، أو جامعة كان يطمح أن يدرس فيها، أو دار عبادة، اطمئن فيها قلبه قبل الحرب وربما أثناءها!
ارتباك المشاعر هذا لا يقل كثيرا عن ارتباكها تجاه من فقدهم من البشر، فحين تقيم علاقة مع المكان، فأنت تؤنسنه، على عكس ما يفعل العدو في الحرب، وهو يشيّئُ المباني والبشر أيضا، ويقضي عليهم بكبسة الزر ذاتها.
فهذه معركة السلام مع الحرب إذن، معركة الشاعرية مع المادة، ومعركة الحياة مع رأس المال الذي تتحول ألسنته إلى ألسنة لهب وأذرعه إلى أعمدة دخان.
"نموت نموت.. ويحيا الوطن"، تكتسب هذه الجملة صورة واقعية أكثر، عند إسقاطها على واقع غزة اليوم وفي كل الحروب السابقة، فقتل المنازل هو قتل للوطن بمفهومه المسطّح، والدفاع عنها وعن سكانها، هو موت من أجل إبقاء الوطن حيا، وهذه شرعية الشاعرية، فإن سقط الشِّعر في هذه الحالة، يسقط الشعار، وإذا سقط الشعار، تنتهي الحرب بالهزيمة، لكن صمود الشعار في آخر الأمر، يعني تضحيات كبيرة، ودماء تسيل من أجل الحفاظ على الإسمنت، الذي يجب أن يكتسب دائما – في الحرب- قيمة أعلى، فليس الدفاع عن الحجر دفاعا عن الأصنام، وإنما دفاع عن الحق في التذكّر المقرون بابتسامة، لا بحسرة وألم، ودفاع عن حق أنسنة المدينة، مقابل طمرها في مقابر النسيان، وإلا فلماذا نحب مدينة ونتعلق بها، ونعيش فيها أو نتردد على زيارتها، إن لم تكن ملامحها عاملا أساسيا في العلاقة؟!
لقد دمرت إسرائيل كل شيء في غزة، فطحنت الناس في بيوتهم، وفي المستشفيات، وطحنت ذاكرتهم بتشويه البلد، لكن حُب ملوك أريحا السابقين لها، جعلهم يتلقون لعنات يهوشع بصدر رحب، ويعيدوا بناءها، فكيف بأهل غزة، وهي مدينة مباركة بالدماء والحب اللذين يسيلان معا منذ أن كانت، دفاعا عن الحق في الوجود!