في المراجعات التاريخية لعلاقة الفلسطيني مع ساحله نقف أمام سؤال الخوف من البحر وتجنبه، ويتجلى هذا الخوف على أكثر من صورة، وفي كل صورة يجد الدارسون سببا مختلفا لهذه العلاقة الملتبسة، فمنها الديني، ومنها الاجتماعي الثقافي، ومنها السياسي والعسكري.
على المستوى الأسطوري ارتبط البحر في الثقافات القديمة وما بني عليها من أديان، بالغموض والغياب والموت، حتى أن لونه الأزرق غدا لونا جنائزيا، ويرجع السبب لربط الثقافات القديمة البحر بالهروب والتحلل والاختفاء، وحياة ما بعد الموت أيضا.
وقد أثرت النظرة تلك حتى على المفاهيم النفسية التي صيغت على أساس طبي لاحقا، في ما يعرف بالثالاسوفوبيا، أي رهاب البحر، فاقترح الباحثون أن الخوف من المسطحات المائية الكبيرة جزء من استجابة تطورية بشرية مرتبطة بتأثيرات ثقافية وشعبية تثير الضيق والقلق، لذلك يرتبط اتساع البحر بعمق اللاوعي والغموض والمصير المجهول.
فضلا عن الآثار الناجمة عن الهجمات العسكرية التي اتخذت تاريخيا من البحر بابا لاحتلال اليابسة، خصوصا في فلسطين المفتوحة على 3 مسطحات بحرية وهي البحر المتوسط غربا والبحر الميت وبحيرة طبريا شرقا والبحر الأحمر جنوبا، وكان دائما البحر المتوسط أكبر مسطحات الخوف بالنسبة لسكان فلسطين الأصليين، فالمصريون القدماء واليونان والرومان والصليبيون والعثمانيون ونابليون وإبراهيم باشا والإنكليز والعصابات الصهيونية، كلهم جاؤوا من البحر، وقضوا أو كادوا على الحواضر الفلسطينية في الساحل، لذلك لم يجد الفلسطينيون بُدّا من صياغة المثل القائل: "ما في إشي بيجي من الغرب وبِسُرّ القلب".
وتركت هذه المخاوف أثرا كبيرا على مجمل الثقافة الفلسطينية، فلم يجرؤ الفلسطينيون على إقامة قرى ملاصقة للبحر، ففي كل الساحل الممتد على مساحة 3244 كيلو مترا مربعا، لا تجد سوى 4 قرى فقط التصقت بالساحل وهي: الزيب قرب عكا، والطنطورة قرب حيفا، والحرم (سيدنا علي) قرب يافا، والجورة قرب عسقلان.
ويذكر المؤرخ الفلسطيني علي حبيب الله أن بيوت هذه القرى لم تتخذ من البحر وجهة لأبوابها، إنما اتجهت الأبواب صوب الجنوب والشرق، في تجنّب واضح لفأل البحر، ويضيف حبيب الله أن الثقافة الساحلية الفلسطينية تأخرت كثيرا في التبدي، ولم تحضر بشكل مستقل، يمكّنها من تطوير معجمها الخاص، إنما استلفت معجما فلاحيا من اليابسة، جعل الفلسطينيين يسمون البحّار بحريّا، ويقولون: سارح في البحر، في تعبير مواز لـ "سارح في الغنم"، ويسمون أماكن تربية الأسماك بـ"مرعى السمك" انسجاما مع الحالة تلك.
الأثر الأعمق للحالة تلك ظهر في الأغنية التراثية الفلسطينية، فتذكر الباحثة والفنانة الفلسطينية سناء موسى، أن أصعب رحلة ضربتها في التراث، كانت في صدد البحث عن أغنية البحر الفلسطينية، فلم تجد رصيدا مكافئا لطول الساحل الفلسطيني، ولم تجد انعكاسا يملأ العين لثقافة البحر في الغناء الفلسطيني، بيد أنها عثرت بعد جهد على لون يلفه الخوف والغموض والتضرع، فكلما ارتبط الغناء بالبحر، وكلما ابتعد المغنون غربا، ازداد صوت الحنين إلى اليابسة في الأغنية، وتعيد موسى السبب في ذلك إلى الخطر الذي كان يحف رحلات الصيد، من انقلاب القوارب البسيطة وموت من عليها، خصوصا أن المواسم الفضلى للصيد كانت تلك الأيام العاصفة، التي تحرك الثروة السمكية باتجاه سطح الماء، فكان الغناء البحري حاجة لتبديد المخاوف والتضرع إلى الله، وكذلك لضبط إيقاع التجديف، وتقصير الرحلة بالتسرية عن النفس.
وتكشف موسى أنها وجدت في ما وجدت أن أغنية "عندك بحرية يا ريّس" أساسا من أغنيات تراث فلسطين ومجمل بلاد الشام، إلا أن شاعرها ميشال طعمة طوّر الكلمات، وملحنها محمد عبد الوهاب طوّر اللحن على المقام نفسه، وتقول إنها لم تتمكن حتى الآن من العثور إلا على 8 مقطوعات، ضمت في ما ضمت أغاني استقبال الصيادين العائدين سالمين إلى اليابسة، وتؤكد موسى أن الغناء البحري بدأ بالانحسار مع ثلاثينيات القرن الماضي، بسبب تطور المراكب، التي بدأت تسير على محركات تحدث ضجيجا يمنع من الغناء.
ويقر بما تقوله موسى الشاعر والباحث خالد جمعة، في كتابه الأغاني الشعبية في قطاع غزة، وتجدر الإشارة إلى أن البحث، أي بحث، في غزة يستمد شرعية ديمغرافية وكثافة خاصة، لكون القطاع استقبل عديدا من لاجئي الساحل عام 1948، من شتى المدن والثقافات الفلسطينية المتشابكة، بما يجعل القطاع خزانا ثقافيا هائلا.
ويذكر جمعة في كتابه الذي جمع فيه عن الألسن أهم ألوان الغناء التراثي في غزة، أن تراث البحر الغنائي في منطقة قطاع غزة مهدد بالانقراض التام، إذ أنه أصلاً قليل والأقل منه هم الأشخاص الذين يحفظونه، ويضيف أن معظم "الحداوي" حتى تلك التي كان يؤديها الصيادون قديماً هي عرايشية نسبة إلى مدينة العريش المصرية، فلقد كان البحر قبل عام 1982 مفتوحاً على مصر حتى بور سعيد كما يقول الصيادون، ولذا فإن المطّلع على هذه الأغاني سيلمس اللهجة المصرية المختلطة باللهجة الفلسطينية أحياناً، ويجد جمعة في بحثه كما تجد موسى أن مجمل الأغاني البحرية تتشح بصبغة دينية، فيقول إن معظم الأغاني تلك تبدأ بالصلاة على النبي.
ويمكن استنتاج امتداد الخوف أيضا في تلك الأغاني، وما يترتب عليه من الاستعانة بالنبي وبالله وبالأديان عامة، لاستجلاب الفأل الطيب بالنجاة من مخاطر الرحلة.
على أن الفلسطيني تمكّن من تطوير ثقافة شاطئية لاحقا، دون الانقطاع عن تاريخه الكنعاني، وثمة إشارة لا بد منها تتعلق بالفرق بين الساحل والشاطئ، فالساحل هو هبة الطبيعة، أما الشاطئ فهو الأثر الحضري على ذلك الساحل من بناء وثقافة واتصال، فشكلت الطقوس الاحتفالية الدينية والاجتماعية تعبيرا عن تلك الثقافة الناشئة، كأربعاء أيوب قرب غزة، وموسم النبي روبين جنوب يافا، وموسم النبي موسى في القدس وأريحا، وموسم النبي صالح في الرملة، فاتسم أربعاء أيوب بسمة التضرّع وطلب الشفاء، ورافقته أغان ابتهالية، فيما اتسم موسم النبي روبين بطقوس الاحتفال والفرح والانتجاع، واتسم النبي موسى بالطابع الصوفي ثم تطور إلى منبر للخطب السياسية تحت وطأة التطورات التي جلبها الانتداب البريطاني ومؤشرات نشوء الدولة الصهيونية، وظل موسم النبي صالح محل مشادات طريفة بين أهالي الرملة المضيفة وأهالي اللد الضيفة، وكان من شأن هذه المواسم إنتاج رصيد غنائي منه البحري، لكنه لا يصلح كثيرا للتداول خارج سياق المواسم تلك.
وقد يكون للغنى التراثي للقرى الفلسطينية اليابسية، ومجموع الجهد البشري في التأليف والترديد الغنائي، أثر في تواضع التراث الغنائي للقرى البحرية، عبر المقارنة التي لا تبدو منصفة على الأساس الديمغرافي.