قد يكون التعلم عن طبيعة الحروب بشتى أنواعها خطوة ذكية ونحن على مشارف حرب عالمية ثالثة أو باردة ثانية أو نووية أولى، خصوصاً لأن المنطقة لم تعِش في سلام قبل عملية طوفان الأقصى بل العكس، لقد انتهت حروب الربيع العربي إلى موجات التطبيع التي تطلبت مثل هذه العملية، لهذا، ولمآرب أخرى، سوف تسعى هذه المقالة لمراجعة كتاب "كيف تبدأ الحروب الأهلية، وكيف نوقفها؟" لباربرا والتر.
عند دراسة الحروب الأهلية يتبين للباحث أنها ليست مميزة كما يظن أبناؤها ومن تصليهم نارها، وإنما تمتلك قواسم مشتركة عدة تسمح لرسم مسار واضح المعالم. تزامن شيوع هذه الحروب في القرن العشرين مع صعود الديمقراطيات[1]، وقد تدفع القراءة المتسرعة والخاطئة لهذا الاقتران إلى استنتاج يقضي بتلازم الديمقراطية مع الحروب الأهلية، ما يتعارض مع الفكرة القائلة إن الحروب الأهلية تنشب بسبب طغيان الحكومات السلطوية، إلا أن هذه الفكرة خاطئة أيضًا، لأن الحقيقة كعادتها تقف في المنتصف.
من أحد أهم المؤشرات على احتمالية وقوع حرب أهلية وفقاً للكاتبة هو سيادة النظام المهجّن، أو المرحلة الوسطى بين الديمقراطية والسلطوية، أو ما يعرف بنظام الأنوقراطية، وهذا الترابط بين حالة الأنوقراطية والحروب الأهلية هو ما اكتشفته الاستخبارات المركزية الأمريكية عام 1994. وضّح مشروع البحث في حالات الزعزعة السياسية حول العالم أن احتمالية نشوب الحروب الأهلية أو عدم الاستقرار السياسي في ظل الأنظمة الأنوقراطية هي ضعف احتماليتها في ظل الأنظمة السلطوية وثلاثة أضعاف الاحتمالية في ظل الأنظمة الديمقراطية.
الأنوقراطية مصطلح عام يمكن فهمه كديمقراطية جزئية، يحظى المواطن في كنفها ببعض الحقوق الديمقراطية، لكنه أيضاً يقبع تحت حكم متسلط يخلو من المساءلة الكافية والشافية. هذا الاكتشاف لا يتعارض فقط مع الظن بأن السلطوية المفرطة هي ما تدفع للحروب الأهلية ولكنه قد يتعارض مع الحدس الذي يرى في تردي الظروف الاقتصادية سبباً للحروب الأهلية. يُعتبر هذا الحدس في مكانه لو كانت الفترة المدروسة هي أوائل القرن الماضي، حيث لعبت الطبقية دوراً مهماً في الثورة الروسية والصينية بينما لعبت الأيديولوجيا السياسية دوراً مهماً في حروب أخرى، لكن الأسباب أخذت منحى آخر في أواسط القرن عندما قل ارتباطها بالطبقية والأيديولوجيا. ذلك يستدعي تحديث حدسنا عندما نفكر بالحروب الأهلية. التأني في التعامل مع المعلومات يزيد القوة التفسيرية لهذه الدراسة، بل تتحوّل إلى فكرة بديهية نوعاً ما عندما نفكر بالطبيعة "الانتقالية" للحكم، ففي هذه الحالة سواء كانت الحكومة تنتقل من الديمقراطية نحو السلطوية أو العكس، فإن قبضتها ترتخي ولا تتمكن من احتواء التمرد السلمي كما هو الحال في الديمقراطية أو التمرّد الدموي في ظل السلطوية.
عند ترجمة الظروف إلى مقياس رقمي يُعطى النظام الديمقراطي المتكامل عشر نقاط والنظام السلطوي المطلق عشر نقاط سالبة، بينما حيّز الأنوقراطية هو في المنتصف بينهما. والعلاقة بين المرور في هذا الحيز والحرب الأهلية ليست جبرية، إذ توجد أمثلة على دول تستقر في هذه الحالة مثل سنغافورة ودول دخلت في عاصفة الأنوقراطية وخرجت بسلام منها مثل المكسيك. ويعود هذا وفقاً للكاتبة إلى أن الانتقال لم يكن متسرعاً مما قلل من وطأة القلق إزاء المستقبل عند الشعب والنخب، ما سمح للمساومة بين الأطراف وإعادة توزيع السلطة سلمياً. كما أن الخطر لا يبدأ مباشرة مع أول خطوة انتقال نظام الحكم من طرف إلى آخر؛ هناك مسافة عادية يمكن للنظام أن يقطعها دون قلق، لكن الخطر يتنامى ويبلغ ذروته تماماً في منتصف الطريق بين النظامين.
هناك سبب رئيسي آخر وأيضاً يقترب من الحدس لكنه لا ينطبق عليه مباشرة، السبب هو التحزب (Factionalism) ولا يُقصد هنا وجود الأحزاب بالمعنى السياسي أو شدة الاستقطاب السياسي، ولا التنوع العرقي الذي قد يبدو بارزاً عند التفكر بالصراعات من هذا القبيل إذ إن العديد من الدول التي تملك تنوعاً فاقعاً لم تشهد نزاعات عرقية. يشير مصطلح التحزب هنا إلى حالة من القطبية تتجسد على شكل أحزاب سياسية قوامها أساسات إثنية أو عرقية أو دينية بحتة، وميزتها هي أنها تسعى لاستلام الحكم بشكل إقصائي. يمكن وصفها بأنها طور متقدم مما يعرف بسياسات الهوية. هذه التحزبات لا تقدّم سياسة واضحة، فهي تتمركز حول شخصيات بعينها أو رموز معينة، وتنمو هذه التحزبات عندما تشعر مجموعة بخطر ناجم عن تزعزع الحكم، خصوصاً لو كان بيدها.
تتواجد حالة التحزب وسط مقياس يحتوي على خمس درجات من التنافس السياسي، أدناها يعني نظاماً قمعياً لا يسمح بأي نوع من التنافس وأعلاها نظام يسمح لأكمل وجه منه. في الحالة الوسطى (أي عندما ينال المرتبة الثالثة) لا يكترث أبناء التحزب بمصلحة الجميع، ويقتصر اهتمامهم بتحزبهم على حساب الآخرين، فإذا تطابق هذا مع الأنوقراطية تتضاعف احتمالية نشوب حرب أهلية بشكل مهول.
يبرز في مملكة يوغسلافيا أفضل مثال على هذه التحزبات، وليس من الغريب أن كلمة البلقنة مشتقة من الظروف التي مزقت تلك الدولة إلى دويلات صغيرة، ويبرز الفرق بين التحزب وبين التنوع في حقيقة أن الشعب اليوغسلافي لم يرفع من قيمة الإثنية قبيل الحرب[2]. كما تستعين الكاتبة بأمثلة الحرب الأهلية في لبنان والتي انتهت دون بلقنة إلا أننا نشهد اليوم آثار التفتق التحزبي الذي يدعمه العدوان الصهيوني جهراً، وكذلك يبرز مثال سوريا حيث لم تقدم الفصائل الثورية منهجاً سياسياً وإنما اكتفت بالإقصاء على أسس طائفية ضيقة.
لا ينمو التحزب بين ليلة وضحاها، وإنما يتبرعم على فترة قد تطول لأعوام ويحتاج لبعض التقلبات والظروف، ومنها ما يعرف بمعضلة الأمن، وقد ينصرف النظر عن المسبب الحقيقي للتزعزع الأمني بالتركيز على شرائح مجتمعية لا حول لها، والتي يسهل سوء الظن بنواياها، بينما الواقع في بعض الحالات هو العكس تماماً، مثل حكاية المسلمين في الفلبين وخصوصاً في جزيرة مينداناو، حيث أدت الظروف وفقاً للكتاب إلى فقدانهم السلطة بالإضافة لزيادة تعداد المسيحيين، كل ذلك أدى إلى تحزب على أساس ديني.
لو اعتبرنا الأنوقراطية باروداً والتحزب أكسجيناً، ما زلنا بحاجة إلى شعلة كي تنفجر الحرب الأهلية، هذه الشعلة هي اليأس. وهذا اليأس ليس استعارة شاعرية وإنما محفز يذكره الكتاب بصراحة واستناداً إلى الحرب في أيرلندا وسوريا، إذ إن المجموعة التي تشعر بالضيم لا تذهب تلقائياً إلى المعركة بل تسعى لتلبية مطالبها سلمياً، ويمكن اعتبار الاحتجاجات علامة على الأمل بأن الحكومة سوف تصغي لمواطنيها، وتمثل الانتخابات متنفساً آخر للاحتقان. لكنهم إذا تيقنوا أخيراً أن المحاولات السلمية لا طائل منها أو خسروا بالانتخابات وفقدوا الأمل بالنجاح مستقبلاً، حينها لا يبقى أمامهم سوى العنف. يمكننا أخذ هذه المعلومة من وجهة النظر المقابلة، على الحكومات ألا تخشى من الاحتجاجات وإنما من اقتناع الناس بعدم الجدوى من مثل هذه التعبيرات السلمية.
في خاتمة الكتاب تجيب الكاتبة السؤال الثاني من عنوانه، "وكيف نوقفها؟"، تشمل الإرشادات ضرورة المساومة بين قادة الأطراف من أجل احتواء التصعيد، كما تشير إلى أنماط معينة تستحق المراقبة مثل ندرة الحروب الأهلية بشكل عام وعلى الرغم من ندرتها هذه فهي عرضة للتكرار في الدولة ذاتها إذا وقعت سابقاً، أي أن الدولة التي شهدت حرباً أهلية تميل إلى خوض جولة ثانية ما لم تتعالج الجروح الغائرة في نسيج الدولة وما لم ترفع المظالم التي قد يستغلها رؤوس الفتن لغايات التحريض أو لتشكيل التحزبات.
يشمل الحل وفقاً لدراساتها، ويركز على، الحكومة الرشيدة، وهذا يعني أن يكون تطبيق القانون عادلاً ومتساوياً بين المواطنين، كما يجب أن يتاح للأفراد حريات التعبير والمشاركة القانونية ومن اللازم أن ترتفع كفاءة الحكومة وتحسن من مستوى خدماتها المدنية بالمجمل. هذه الواجبات لو عُمِل عليها تنخفض احتمالية تكرار الحرب الأهلية. وكذلك يجب العمل على خفض التدخلات الخارجية إلا أن الكاتبة لا تعطي وصفة مناسبة لمثل هذا الإجراء. أخيراً، إذا بدأ جمر الحرب بالاحمرار تذكر الكاتبة بعض تكتيكات الحركات المتمردة وكيف يمكن ردعها.
مآخذ العبد الفقير على الكتاب
الكتاب ثري بالأمثلة، من إسبانيا في الثلاثينيات إلى يوغسلافيا في التسعينيات من القرن المنصرم، ومن أندونيسيا إلى العراق إلى إثيوبيا، يتفاوت الكتاب في كم المعلومات عن الحروب لكنه يقدم حجة مقنعة بما فيه الكفاية لتوضيح المغزى من الأمثلة، كما يعطي تصوراً أفضل عن طبيعة النزاعات وأن المشكلة لا تنحصر بالتنوع أو التعددية السياسية أو الظروف الاقتصادية السيئة، إذ لم يكن التفاوت في مستوى الدخل عاملاً مهما، كما أن السلطوية لا تدفع تلقائياً للحرب الأهلية كما كنت أظن. وأظن أيضاً أن هذا الكتاب مناسب للمهتمين بالعلوم السياسية أو من يجلسون في مواقع إصدار القرارات، لكنه ليس قراءة مسلية أو حتى سليمة، فالكتاب يحتوي على سقطات عدة وعلى القارئ التنبه إليها.
أولاً، انحياز الكاتبة واضح في خوفها الذي تولد من مشاهدة مقادير الوصفة تتجمع في الولايات المتحدة، هذا هو ما دفعها لكتابة الكتاب، ولذلك تسعى في أواخره إلى ترشيح آلية إيقاف الحرب قبل أن تبدأ. عندما تخصص الحديث عن احتمالية وقوع الحرب الأهلية في الولايات المتحدة تصب اللوم كله على الجانب المحافظ والجمهوري، أي أنها بدلاً من التعاطي مع العوامل التي تدعو إلى احتواء الجميع تحرض على الطرف الآخر بمزاعم يمكن التشكيك بها، مثلاً فهي تبالغ في تصوير ميول الحزب الجمهوري وخصوصاً ترمب لتلبية مطالب الناخب الأبيض دون أن تذكر أولوية ترمب والحزب في إرضاء الحركة الصهيونية وتخليهم عن المتظاهرين في السادس من يناير بعد خسارته للانتخابات، أمور أزعجت الكثيرين من العنصريين البيض الذين ساهموا في نجاح ترمب ظناً منهم بأنه عنصري مثلهم أو الذين تظاهروا ظناً منهم أن لديهم سند في رأس الهرم.
بعد تتبع خيوط حجتها عبر الكتاب ومع المعرفة بطبيعة هدفها في آخر فصوله يتركنا الكتاب ضمنياً مع سؤال ثالث، "وهل علينا أن نوقفها؟"، فهذا الكتاب وفق قراءتي يحذّر من أطرافٍ معينة وربما توظّفت العوامل التي استنتجتها الدراسات في قالب يلقي كل اللوم على تلك الأطراف بدلاً من الالتزام بنصيحة المساومة. لذلك انحياز الكاتبة الواضح يوجب القراءة الحذرة.
على أي حال، يمكننا التغاضي عن هذه المشكلة، فالكاتبة على الأقل حاولت أن تبني حجتها وتوظفها لما تراه من مصلحة دولتها، ما لا يمكن تجاهله هو أنها تتحدث من موقع استخباراتي لدولة شرسة، وأن بعض تعليقاتها تخفف من بربرية سياسة الولايات المتحدة الخارجية. مثال ذلك نجده عندما تذكر العراق، نلاحظ أن الطرح ينسب الحرب الأهلية لمحاولة جورج بوش إجبار العراق على الانتقال إلى الديمقراطية عنوةً، هذه القراءة تتجاهل الاحتلال وأثره الكارثي على نسيج المجتمع. ما فتح ثغرة في طرح الكتاب، فهي حتى عندما تذكر الاحتلال الأمريكي لا تنسب المشكلة له وكأنه مصدر الحرب الأهلية وإنما كأنه حافز لأنه زعزع السلطة السنية مما دفعها للتحزب. كل هذا يدفعنا للتساؤل عما إذا كانت وحدة دراسة النزاعات في الاستخبارات تعتبر نفسها عاملاً أم لا، وهل كانت تدرس النزاعات لإشباع الفضول أم كي تستغل الاستنتاجات في تدخلاتها المستقبلية.
في أماكن أخرى تتناقض الأمثلة، عندما زعمت الكاتبة مثلاً بأن المكسيك انتقلت ببطء سمح لسلمية العملية، وبعدها بقليل تمر بسرعة على معلومة أن التشيك وليثوانيا مرّوا بسرعة خاطفة في حيز الأنوقراطية دون وقوع الحرب، ما يعني أن سرعة النقلة ليست الفيصل.
هناك نمط جلي من اللغط عندما يتعلق الكلام بفلسطين، تصور الكاتبة حماس وكأنها حركة تواجه حكومتها ويتغاضى الكتاب عن حقيقة الاحتلال كلياً، نقرأ كلاماً على شاكلة "تكتيك حماس الرئيسي ضد إسرائيل يكمن في استهداف المواطنين العاديين أثناء ممارستهم لحياتهم اليومية" وكأنها حياة تشبه حياة أي مدني آخر في دولٍ طبيعية. ويتم التدليس بطرقٍ عدة مثل إدراج "إسرائيل" في قائمة الدول التي عانت من حروب أهلية مثل بوسنيا والعراق وسوريا وأيرلندا، فهي تذهب من الاحتجاجات السلمية في سوريا إلى الاحتجاجات في فلسطين فتعطي بذلك انطباعاً بأن الفلسطيني يتعامل مع حكومته الطبيعية. ثم تتمادى في التكافؤ الكاذب لتشبّه حماس بالحزب الجمهوري الأمريكي من باب أن كلا الحزبين يستغلون مظالم الشعب. كما يكرر الكتاب الأكاذيب حول استخدام حماس للمدارس والمساجد كمستودعات أسلحة مما يجبر جيش الاحتلال الخلوق على قصف هذه المنشآت، والأكاذيب تمتد لتحدثنا عن لجوء المجتمع الإسرائيلي المسكين إلى حكومة يمينية بسبب إرهاب الانتفاضة الثانية. هذه الأكاذيب لا تقتصر على طمس حقيقة الاحتلال بل أيضاً تُخلُّ في تصور القارئ الذي لا يملك أي خلفية عن طبيعة الصراع، مثلاً عندما تقول بأن حماس استغلت تجاهل الحكومة الإسرائيلية للمواطن الفلسطيني تخفي كلياً حقيقة حصار القطاع وأن ما يحصل يفوق "التجاهل" بأشواط.
من الصعب التحديد ما إذا كانت هذه النظرة للشعب الفلسطيني وكأنه يعيش بشكل طبيعي في دولته هي نظرة عن جهل بالشرق الأوسط أو خبث متعمد، ففي موضع آخر تذكر الكاتبة فكرة تلقي الدعم الخارجي وتضرب الأمثلة بالمتمردين في نيكاراجوا وتلقيهم الدعم من الولايات المتحدة، واعتماد الثوار في دونباس على الدعم من روسيا، لكنها عندما تجمع حزب الله مع المذكورين تقول أنه تلقى التمويل من سوريا وإيران ولبنان! لو لم يفقه القارئ شيئاً بالمنطقة قد تعطي هذه الجملة انطباعاً بأن حزب الله ليس لبنانياً أصلاً. المشكلة في خطأ من هذا النوع هو أنه يلقي ظلال الشك على عدة مواضع في الكتاب ويخفف من قدرة القارئ على إحسان الظن، وعندما نقرأ وصفها لدمشق بأنها مركز القوة "العلوي المسيحي" دون حرف عطف أو علامة ترقيم، نشك بما إذا كانت تظن العلوية طائفة من المسيحية أو شيء بهذا المستوى من الجهل.
على المستوى النظري هناك علل تستحق التوقف عندها، على سبيل المثال يجمع الكتاب بين عاملي الأيديولوجيا والطبقية في تفسير ثورات مطلع القرن الماضي كما ذكرنا، لكنه يخفي في هذا المزيج حقيقة أن الأيديولوجيا في روسيا والصين هي بطبعها ركزت على الطبقية. لو أخذنا هذه الزاوية في فهم المسألة نجد أن عامل الأيديولوجيا لم يتلاشَ اليوم وإنما اختلفت الأيديولوجيا بذاتها، وانتقلت من الأساس الاقتصادي (الطبقي) إلى أساس آخر، وربما يصح القول إن تحرّك الأسس الأيديولوجية نتج عن انتصار الرأسمالية على الشيوعية وما حققته من تقاربٍ للرؤى الاقتصادية وانصراف الأذهان للاختلافات العرقية والدينية التي لا تتعاطى معها الأنظمة الاقتصادية بشكل مباشر حتى وإن احتوتها أو استغلتها.
بهذا الخلط يظهر الخطب الرئيسي في محاولة الكتاب تفسير الحروب الأهلية، فهو يقول أولاً إن الأيدولوجيا لم تعد عاملاً فعّالاً، ثم يسهب في الحديث عن التحزّب، هذا بدا لي وكأنه إزاحة ليست في مكانها، إذ لا يوجد داعي لافتراض أن عقيدة سياسية مبنية على الأسس العرقية أو الدينية لا يمكن اعتبارها أيديولوجيا من نوعٍ جديد. لذلك شعرت أثناء قراءة الكتاب بأنه يحاول إعادة ترتيب الديكور الفكري ليتفادى التعاطي الجاد مع أدبيات هذه الأيدولوجيات الناشئة والمظالم حتى لو اعتبرناها مزيفة. بدلاً من التعاطي الجدي مع فلسفة الفكر التحزبي تستخدم الكاتبة أمثلة على أعنف الكتابات، وكذلك تصبغ الكاتبة المتغيرات السياسية بمصطلحات استهلاكية. مثلاً تصف الشخصيات التي تدعو لمثل هذه التحزبات بالرواد الإثنيّين على غرار رواد الأعمال، وتختزل نواياهم بنوايا استغلالية، فتقول لنا إن الرائد الديني يسعى لزيادة أتباعه، والرائد الإعلامي يحاول توسيع دائرة متابعيه ومشاهداته وجني المزيد من الربح وفقاً لذلك، بل حتى تجد رواد أعمال إثنيّين يحاولون صياغة علامة تجارية على أساس تحزّبي، في كل الأمثلة لا تتوقف عند الأفكار وتتحقق مما إذا كانوا ببساطة يؤمنون حقاً بمنطقية الطرح وأخلاقياته.
يتضح هذا أكثر فأكثر عندما تزعم بأن أمثال هؤلاء يستغلون ميول البشر إلى الانحياز لعنصرهم والدفاع عنه في أوقات الشدة، دون التوقف مطولاً عند فطرية هذا الانحياز، بمعنى آخر، بدلاً من التعامل مع التحزب وكأنها ردة فعل طبيعية على توغّل -حقيقي أو متوهم- من الأنظمة القائمة، بدلاً من ذلك يجب أن نسلّم عند قراءة الكتاب بأنها طفرة منتهزة من قِبل أولئك الرواد وأن الأيدولوجيا الليبرالية الاستخباراتية المستترة هي السليمة وكل شيء سواها يضمر نوايا خبيثة.
هوامش:
[1]: مع العلم بأن ذلك الصعود تلاه هبوط منذ 2010 في عدة دول ديمقراطية. يشير الكتاب لتزامن هذا الهبوط مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والأجهزة الذكية. هذا الزعم يتعارض مع مزاعم الربيع العربي التي نسبت فضل التحركات الديمقراطية لتلك التكنولوجيا، لكن دراسة العلاقة بحاجة إلى تفصيل أكثر ولا يمكن تلخيصها بعلاقة طردية أو عكسية. يشير الكتاب في فصول لاحقة إلى دور مواقع التواصل الاجتماعي في التلاعب بالأصوات والتحريض على الأقليات، لكن إذا أردت معرفة المزيد عن دور مواقع التواصل في الانتخابات وتحديد السياسات يمكنك قراءة هذه المقالة.
[2]: على الأقل هذا ما تدّعيه الكاتبة وفق مقابلات شخصية وما قيل عن التزاوج بين الإثنيات المختلفة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الأمر كان بهذه البساطة.