الوصول إلى الأرشيف بسهولة والاطلاع على محتوياته يشكل تحديًا رئيسيًا للباحثين في دراسات الخليج والجزيرة العربية. في الغالب، يعتبر التاريخ في هذه المنطقة غير مكتوب بشكل كامل، حيث يعتمد بشكل كبير على التاريخ الشفهي، وخاصة فيما يتعلق بالمشيخات التي كانت مراكز تجارية وسياسية حيوية. كلما ازداد اهتمام الباحث بتاريخ المشيخات في الخليج، ازدادت أهمية التاريخ الشفهي كمصدر رئيسي للمعلومات، ولكن عندما يتحول التركيز إلى الحواضر الداخلية للجزيرة العربية، تقل أهمية هذا النوع من المصادر.
هذه الصعوبة في الوصول للمصادر من خلال الأرشيفات أو التاريخ الشفهي شكلت عائقا أمام كتابة التاريخ من جوانب غير رسمية أو جوانب أخرى ترضى عليها القوى الاجتماعية في المجتمعات الخليجية. في هذا المقال سنحاول تبيان كيف أن الإفساح عن التاريخ المخفي قسرا سيمكن الباحثين والمهتمين بتاريخ الخليج والجزيرة العربية من تناول مواضيع أكثر والتعمق في دراسة المجتمع وتطور الأفكار مما ينعكس بالضرورة على التخصصات الأخرى التي تدرس هذه المجتمعات. لا أعتقد أن هناك خصوصية تاريخية للمجتمعات الخليجية وإنما الإشكال هو إشكال منهجي في كيفية التعامل مع المصادر التاريخية لهذه المنطقة الجغرافية خصوصا وأن الكتابات الأكاديمية عن الخليج خصوصا باللغة العربية لم تحاول أن تشتبك مع هذه الصعوبات ومحاولة شرحها وحلها في آن واحد.
منطقة نجد، على سبيل المثال، لم تكن مركزًا علميًا رئيسيًا مقارنة بحواضر أخرى مثل اليمن أو العراق أو عمان، إلا أن الكتابة التاريخية فيها كانت في القرن الحادي العاشر الهجري وهنا نتكلم تحديدا عن التاريخ الحديث وليس فترة التاريخ الوسيط. ومع ذلك، يظل السبب وراء عدم اهتمام حواضر الموانئ بتوثيق تاريخها بشكل أكثر تفصيلًا غير واضح، على الرغم من أن المدارس الفقهية التي كانت موجودة في الموانئ كانت على دراية بأهمية التوثيق التاريخي. العديد من علماء هذه المذاهب قاموا بتدوين التاريخ بشكل ضمني في مؤلفاتهم الفقهية، أو من خلال كتب تناولت تاريخ الجزيرة العربية.
في البحرين مثلا تم تدوين تاريخها باللغة الفارسية، كما في كتابات محمد إبراهيم الكازروني عن جزر البحرين في عام ١٨٣٧، وقد سبقه كتاب في تراجم العلماء وهو فهرست علماء البحرين الذي كتبه سليمان الماحوزي باللغة العربية في عام ١٧٠٩. في منطقة نجد مثلا نجد أن كتابة التاريخ بدأت في وقت مبكر من القرن الحادي عشر الهجري مع أحمد البسام، الذي كتب بطريقة الحوليات. لكن، يظل غير واضح لماذا لم يُدون تاريخ المشيخات الساحلية مثل البحرين والكويت، التي نشأت في القرنين السابع عشر والثامن عشر، إلا في القرن العشرين.
عند البحث عن التاريخ الكويتي، على سبيل المثال، نجد نقصًا في التوثيق من قبل المستقرين في الكويت عن تاريخها. لا يوجد تفسير دقيق لسبب غياب هذا التوثيق. البعض يجادل بأن التدوين التاريخي في الكويت بدأ مع عثمان بن سند، لكنه لم يكن كويتيًا بالمعنى الحالي الذي يتفق عليه الباحثون اليوم ولم يذكر أخبارا كثيرة عن الكويت. على الرغم من وجود سجلات شرعية ووثائق ملكية في الكويت تعود إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر، إلى جانب مخطوطات دينية مثل مخطوط الموطأ في فقه الإمام مالك، إلا أن الكتابات التاريخية الكويتية لم تبدأ إلا في القرن العشرين عبر عبدالعزيز الرشيد وكتابه تاريخ الكويت.
الواقع أن الوصول إلى الأرشيفات، بالإضافة إلى القيود القانونية والسياسية والاجتماعية التي تفرضها الحكومات على هذه الأرشيفات، جعل من الصعب على الباحثين الوصول إلى الوثائق التاريخية المهمة. أدى ذلك إلى تغييب أو إخفاء جزء كبير من التاريخ. منذ بداية تشكل دول الخليج في منتصف القرن العشرين، وعلى الرغم من أن الكتابات الأكاديمية وغير الأكاديمية تستند غالبًا إلى السرديات الرسمية، إلا أن هذه السرديات تميل إلى التركيز على المركز في التاريخ مثل الأسر الحاكمة والطبقات التجارية والدينية، متجاهلة بذلك تواريخ الفئات المهمشة والأحداث الجدلية وحتى المذاهب الدينية الأخرى التي شكلت جزءًا من تاريخ المنطقة.
إخفاء هذه الأجزاء من التاريخ كان له دور أساسي في تشكيل مفاهيم الهوية الوطنية والمواطنة. في الكويت، على سبيل المثال، أدى هذا التغييب إلى تقليل أهمية الفئات الاجتماعية التي ساهمت في بناء البلاد قبل ظهور النفط، مثل العمال المهاجرين والطبقات العاملة. بينما في البحرين، أدى إلى تغييب الجماعات الدينية والسياسية التي طالبت بالإصلاحات الاجتماعية والسياسية.
التاريخ المخفي قسرا بين المفهوم والتطبيق
التاريخ المخفي قسرًا (suppressed history) هو مفهوم يشير إلى إخفاء أو تغييب جوانب معينة من التاريخ عن السرديات الرسمية أو الروايات العامة، ويتم ذلك بشكل متعمد من قبل السلطات أو النخب الدينية والسياسية والثقافية. الهدف الأساسي من هذا الإخفاء هو السيطرة على السرد التاريخي والتحكم في الكيفية التي يُفهم بها الماضي. في كثير من الأحيان، تكون السلطات السياسية أو الاجتماعية وراء هذه الممارسة، حيث ترى أن إبراز أحداث معينة أو التطرق إلى أدوار فئات مهمشة قد يُهدد شرعيتها أو يشوّه السردية الوطنية التي تروجها. كما ذكر إدوارد سعيد في نقاشه حول الاستشراق والاستعمار إن كتابة التاريخ من وجهة نظر السلطة تفرض تجاهل الأصوات التي لا تتوافق مع الهيمنة السياسية والاجتماعية للنخب، بهذا الشكل، يصبح اخفاء التاريخ قسرًا وسيلة قوية لتشكيل الذاكرة الجماعية وتوجيه الفهم العام للأحداث بما يتماشى مع مصالح الفئة الحاكمة أو المتنفذة.
من الناحية المنهجية العلمية، يمكن تفسير هذه العملية من خلال منظورين رئيسيين: الأول هو التحكم السياسي في الأرشيفات التاريخية والمصادر الوثائقية، والثاني هو الانتقائية في كتابة التاريخ التي تعتمد على حذف أو تقليص الأدوار التي لا تتناسب مع السرديات المرغوبة. في هذا السياق، يُنظر إلى الأرشيفات كأدوات للسلطة، حيث تضع الدولة أو الجهات المسيطرة قيودًا على الوصول إلى وثائق معينة، أو تحجبها عن العامة تحت ذريعة الحفاظ على الأمن أو حماية الاستقرار الاجتماعي. هذا النهج يعتمد على فرضية ميشال فوكو في The Archaeology of Knowledge، حيث يناقش أن السلطة لا تُمارس فقط من خلال السيطرة على الناس، بل أيضًا من خلال التحكم في المعلومات والمعرفة نفسها و يؤدي هذا التحكم إلى تحييد الباحثين من الوصول إلى الحقائق الكاملة، وبالتالي تشكيل رؤيتهم للتاريخ بشكل منحاز وغير مكتمل.
التاريخ المخفي قسرًا لا يقتصر على الأحداث السياسية فقط، بل يشمل أيضًا الفئات الاجتماعية التي تم تهميشها أو طمسها من الذاكرة التاريخية. هذه الفئات قد تشمل النساء، الأقليات الدينية أو العرقية، الطبقات الفقيرة، أو حتى الجماعات التي كانت في صراع مع السلطة في مراحل تاريخية معينة. يتم تغييب هذه الفئات بشكل منتظم من السرديات الرسمية، وتُركز الروايات على النخب الحاكمة والطبقات الاجتماعية المهيمنة. بهذا الشكل، لا يتم فقط حجب أدوار الفئات الهامشية بحسب التاريخ الرسمي، بل يُعاد تشكيل التاريخ ليُصبح أداة لإدامة القوة والسيطرة الاجتماعية للفئات التي جعلها التاريخ الرسمي في المركز. كما أشار إدوارد سعيد في خلال نقاشه للاستشراق والاستعمار أن الاستعمار ليس فقط غزوًا للأرض، بل هو غزو للذاكرة التاريخية، حيث يُعاد تشكيل الماضي لتبرير الهيمنة الحاضرة.
من المنظور الأكاديمي، يُنظر إلى التاريخ المخفي قسرًا كجزء من الديناميكيات الأوسع لتشكيل الهوية الوطنية. تتحكم النخب الحاكمة في إعادة تشكيل التاريخ بطريقة تجعل الشعب يتبنى سردية موحدة حول الماضي، تُظهر القوة والاستمرارية، وتُحجم دور الأزمات أو النزاعات التي قد تؤثر على شرعية السلطة. يعمل هذا النهج على تعزيز السلطة والسيطرة من خلال توجيه السرديات التاريخية الرسمية، وهو ما أشار إليه والتر بنيامين في كتابه Theses on the Philosophy of History: أن التاريخ يُكتب دائمًا من وجهة نظر المنتصرين، وأول ضحية في كل حرب هي الحقيقة، بنيامين يعتبر أن التاريخ غالبًا ما يُكتب من قبل المنتصرين، الذين يقومون بإخفاء أو تحريف الأحداث التي قد تقلل من شرعيتهم أو تجعلهم عرضة للنقد.
أخيرًا، يمكن القول إن التاريخ المخفي قسرًا يؤدي إلى إبعاد الحقائق التاريخية عن الوعي الجماعي ويخلق فجوات كبيرة في المعرفة التاريخية للمجتمعات. يؤدي ذلك إلى تكوين صورة مشوهة للماضي لا تعكس الواقع التاريخي بشكل كامل. من هنا، تكمن مسؤولية الأكاديميين والباحثين في محاولة كشف هذا التاريخ المخفي قسرا من خلال محاولة الوصول للوثائق المحجوبة وإعادة النظر فيها. يذكر المؤرخ هوارد زين في كتابه "تاريخ الناس في الولايات المتحدة" يذكر أن التاريخ الرسمي هو السرد الذي يُخفي حقيقة أن النخب السياسية والاقتصادية قد استخدمت قوتها لتشكيل الماضي بما يخدم مصالحها ويعتبر محاولة الوصول إلى الحقائق الكاملة وإعادة دمج الأصوات التي أسكتت جزءًا من التصحيح المنهجي لكتابة التاريخ وتحقيق العدالة التاريخية.
صمت المؤرخين من ناحية أخرى يشير إلى حالة يتجنب فيها المؤرخون الكتابة عن أحداث أو قضايا تاريخية معينة. هذا الصمت قد يكون نتيجة الخوف من السلطة السياسية، حيث قد يؤدي تناول قضايا حساسة إلى تهديد حياة المؤرخ أو استهدافه سياسيًا أو مقاضاته قانونيا. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون الصمت ناتجًا عن التحيز الثقافي أو الاجتماعي، حيث تعتبر بعض القضايا غير ملائمة للبحث أو غير مقبولة ضمن المعايير الاجتماعية السائدة.
للتفريق بين التاريخ الصامت والتاريخ المخفي قسرا أن التاريخ الصامت يتوقف عن تناول الأحداث أو الشخصيات للأسباب التي ذكرناها مثل غياب الأدلة أو عدم إدراك أهمية تلك الأحداث في حينها. في هذه الحالة، يكون الصمت ناتجًا عن نقص في التوثيق أو عدم الاعتراف بقيمة تلك الأحداث ضمن السياق التاريخي الأوسع وهذا الصمت يكون بسبب سلطة المؤرخ على الكتابة التاريخية. على النقيض من ذلك، التاريخ المخفي قسرًا هو التاريخ الذي يتم إخفاؤه بشكل متعمد، سواء من قبل السلطات أو المؤسسات الرسمية أو الأنظمة السياسية وحتى الفئات الاجتماعية. في هذه الحالة، يُمارس نوع من الرقابة أو الاخفاء المتعمد على المعلومات المتعلقة بأحداث معينة، ويتم منع نشر أو دراسة تلك الأحداث بشكل منهجي. يهدف التاريخ المخفي قسرًا إلى تهميش أو تشويه الأحداث التاريخية التي قد تؤثر سلبًا على الرواية الرسمية للتاريخ.
قد يكون الفرق الجوهري بين التاريخ الصامت والتاريخ المخفي قسرًا يكمن في الهدف وراء الصمت. حيث أن التاريخ الصامت هو نتيجة طبيعية لعدم توفر المعلومات أو عدم الاهتمام بأحداث معينة، فإن التاريخ المخفي قسرًا هو نتيجة لقرار متعمد بإخفاء أو تدمير الأدلة التاريخية للحفاظ على سردية ما.
الكتابات الرئيسية لتاريخ الخليج والجزيرة العربية وبداية اختفاء التاريخ قسرا
الكتابات الرئيسية أو ما يعرف بالمصادر التاريخية لتاريخ الخليج والجزيرة العربية كانت أكثر جرأة في التأريخ للأحداث التي جرت في زمانهم، فقد كانت هناك ضوابط لكتاباتهم السياسية والدينية والثقافية جعلت من بعض هذه الكتابات تتحيز أو لا تهتم بقطاع اجتماعي معين أو تقوم بشيطنة معارضيها.
بعد استقلال الدول في الخليج والجزيرة العربية نشأت مؤسسات حكومية وخاصة صارت تتحكم بالمعرفة التاريخية من خلال احتكار المعلومات والوثائق وتقييد الإطلاع عليها إلا لمن يكتب في ذات السياق العام للتاريخ الرسمي للدولة أو فيما يتوافق مع توجهات المؤسسات الخاصة الاجتماعية والدينية والسياسية.
المؤسسات الثقافية الرسمية ذاتها في بعض الأحيان يكون بينها صراع أو بيروقراطية تؤثر على إصدار المعرفة التاريخية وقد ناقشت ذلك روزي بشير في كتابها حرب الأرشيفات في السعودية الصادر باللغة الإنجليزية.
الحال كذلك في سلطنة عمان لكن بطريقة مختلفة، يذكر سعيد سلطان الهاشمي في كتابه الصادر ٢٠٢٤ "عمان: الشعب والدولة" عن التحديات الكبيرة التي واجهها قطاع الثقافة في عمان نتيجة التنازع المؤسسي بين عدة جهات حكومية. هذا التنازع الذي بدأ منذ السبعينيات بين وزارة الإعلام والثقافة، وزارة التراث القومي، وهيئة جمع المخطوطات العمانية التابعة للديوان السلطاني، أثر بشكل مباشر على أداء القطاع الثقافي، حيث ضاعت العديد من الوثائق النادرة بين هذه المؤسسات نتيجة الافتقار إلى التنسيق الفعّال.
الهاشمي سلط الضوء على إشكالية عدم الاستقرار المؤسسي في اتخاذ القرار في القطاع الثقافي، مما أدى إلى تبديد الموارد المالية على مشروعات ثقافية لم تكتمل أو تعرضت للتجاهل دون وجود آليات محاسبة واضحة. هذا التنازع أثر على الجهود المبذولة في الحفاظ على التراث العماني، خاصةً المخطوطات القديمة التي كانت بحوزة الفقهاء والعلماء. وبسبب هذه الفوضى الإدارية، تعرضت بعض الكتب للتشويه، خصوصاً تلك التي تعارضت مع الرواية الرسمية للتاريخ السياسي والديني.
في الثمانينيات والتسعينيات، اتسع نطاق التنازع بين المؤسسات مع دخول جامعة السلطان قابوس إلى الساحة الثقافية، مما أضاف مزيداً من التحديات في تحديد الجهات التي تمثل السلطنة في المحافل الدولية وتحديد أولويات المشاريع الثقافية. في هذا السياق أصبح للتاريخ الرسمي حظوة كبيرة بسبب غياب الأدلة عن الباحثين حسب رأي الهاشمي مما أدى إلا اختفاء جزء من التاريخ العماني خصوصا المتعلق بالإمامة وظفار وبعض المواضيع الاجتماعية قسرا.
الأرشيفات في دول الخليج العربية لا تتيح التعامل المباشر مع الوثائق والمخزون التاريخي الموجود فيها فلا يستطيع الباحث في تاريخ المنطقة معرفة محتويات الأرشيف لعدم إتاحة هذه المعلومات بشكل سهل ميسر للباحثين. يفترض أن تكون وظيفة هذه الأرشيفات الرئيسية اتاحة ما هو موجود في الأرشيف بصورة ميسرة للباحثين لكن هذا الأمر لا يحدث في غالب الأرشيفات الموجودة في دول الخليج العربي اليوم. آلية دخول الأرشيف كذلك غير واضحة وهنا يعتبر ما تقوم به هذه الأرشيفات حكر التاريخ على الباحثين الذين يكتبون ويطورون الكتابة الرسمية للتاريخ. لا يعرف لماذا تشكلت هذه البيروقراطية الموجودة في الأرشيفات الخليجية هل هي بسبب صراع بين أقطاب؟ أم بسبب ترهل الإدارة؟ أم عدم الوعي بأهمية كتابة التاريخ من زوايا مختلفة؟ أم لأسباب أخرى؟
على سبيل المثال مركز البحوث والدراسات الكويتية تأسس كردة فعل على الغزو العراقي لدولة الكويت بمرسوم أميري صادر في عام ١٩٩٢. يذكر المرسوم أن الهدف من تأسيس المركز هو كتابه تاريخ الكويت وكذلك من أهدافه حفظ الوثائق المتعلقة بالغزو العراقي والرد على المغالطات والمزاعم التاريخية الباطلة. الأمر ذاته في نشر الأرشيف البريطاني الذي تكفلت به مكتبة قطر الوطنية وكذلك دولة الإمارات من خلال الأرشيف الرقمي للخليج العربي إذ يلاحظ المتصفح لهذا الأرشيف الإلكتروني أن بعض الوثائق يتم حجبها فهل هو بسبب القوانين الصادرة عن البلدان الخليجية أم بسبب المصدر الأرشيفي نفسه؟ كل هذه الأسئلة ربما تُبحث بشكل أعمق للوصول إلى الإشكاليات الحقيقية وراء الإخفاء القسري للتاريخ.
لم يكن فقط الجانب الرسمي الملام على إخفاء التاريخ قسرا إنما كان للمؤرخين أنفسهم دور في ذلك وفي أحيان أخرى المؤسسات الخاصة التي تمتلك الأرشيفات وقد تكون الأسر ذاتها تمنع جزءا من أرشيفها وتطمس بعضه لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية. من أبرز الأمثلة على التاريخ المخفي قسرا وقد يتنازع معه في هذا المثال التاريخ الصامت أحداث ١٩٣٨ في الكويت، حيث أن سيف مرزوق الشملان رحمه الله -المؤرخ الكويتي- حينما وصل لهذه الفترة الزمنية الحساسة والمهمة في تاريخ الكويت تجاوزها بحجة قربها التاريخي رغم مرور حوالي عشرين سنة على أحداث المجلس وقت صدور كتاب الشملان.
ذكر الشملان في معرض تبريره أنه سيتحدث عن أول عهد الشيخ أحمد الجابر ولن يتكلم عن أحداث ١٩٣٨ لأنها قريبه عهد ومن شاركوا فيها أحياء وهم أولى بالحديث عنها. هذا القرار من المؤرخ اصمت من خلاله التاريخ خصوصا أنه كان بإمكانه الكتابة عن الحدث مع نشر خالد سليمان العدساني لكتابه نصف عام للحكم النيابي في الكويت سنة ١٩٤٧ وكان بالإمكان كذلك المقابلات الشخصية التي ستضفي على تحليل حدث كبير في التاريخ الكويتي مثل أحداث سنة المجلس ١٩٣٨. ولأن الجزم بالشيء غير ممكن اليوم بسبب وفاة المؤرخ لا نعرف على وجه اليقين هل كان تجاوز الحدث قرارا من المؤرخ ذاته ولذا نصنفه ضمن التاريخ الصامت لأن المؤرخ ربما خشي على كتابه من المنع خصوصا وأن المنع طال من قبل كتاب عبدالعزيز الرشيد الصادر عام ١٩٢٦ وكذلك كتاب العدساني الصادر في ١٩٤٧. أم أن هذا التاريخ أخفي قسرا لأن المؤرخ جعل سلطته الرقابية تحدد مدى أهمية هذا الحدث التاريخي وقرر إخفاء تفاصيله قسرا؟ أسئلة تحتاج للمزيد من البحث.
يحسب لمحمد عبدالعزيز العتيبي إخراجه لمحاضر اجتماعات المجلس التشريعي ١٩٣٨ بالكامل ونشرها وإتاحتها للباحثين ولا تزال هناك وثائق كثيرة من الممكن أن تضاف للتحليل التاريخي لأحداث مجلس ١٩٣٨ خصوصا بعد صدور كتاب عبدالله الصقر عن مركز البحوث والدراسات الكويتية وعدم تناوله بشكل مفصل الحدث كون عبدالله الصقر زعيم هذا الحراك السياسي وليس معلوما ما إذا كانت هناك وثائق قد أخفيت قسرا ولم توضع في الكتاب أم أنه ليس هناك وثائق تزيد على موضوع مجلس ١٩٣٨ سوى الوثيقة كاظم الصلح. القضية لا تتعلق بعتاب أو لوم لجهة أو لأرشيف إنما محاولة التساؤل بصوت عال لماذا تفرض رقابة على الأرشيفات وتُمنع المحتويات الأرشيفية عن الباحثين؟
هناك كذلك بعض الإخفاء القسري للمعلومات التاريخية بسبب حساسية المعلومة خصوصا عندما تتعلق بالهجاء أو الانتقاص من الآخر. ينطلق البعض من منطلق ديني أنه لا حاجة لنشر مثل هذه الأبيات لأنها تثير الشقاق المجتمعي. هناك وجاهة لهذا الرأي لكن على المستوى المنهجي والأكاديمي حجب المعلومات غير مبرر سوى في حال وجود خطر على حياة الباحث أو من يكتب عنه. عند تحليل الحالة في السياق التاريخي الخليجي نجد أن معظم الحذف متعلق إما بسياق اجتماعي أو ربما بقضايا سياسية لا يراد لها الظهور. يحسب لبعض المحققين الذين لا يذكرون مثل هذا التاريخ أنهم ينصون على وجوده، ولكن لا يذكرونه في تحقيقهم لبعض المخطوطات من باب عدم اتاحته لكل أحد لكن يذكرون أن هناك حذف مثلما فعل أحمد البساموإبراهيم الخالدي في كتاب تحفة المشتاق لعبدالله البسام في حادثة سنة ١٢٧٨ للهجرة. وفي بعض الأحيان يستعاض عن شطر البيت الذي فيه هجاء بوضع نقاط وهذا برأيي ليس من التاريخ المخفي قسرا إنما من المعايير الأخلاقية التي يؤمن بها المؤرخ سواء كانت دينية أو اجتماعية ولا يعاب عليه ذلك ما دام لم يطمس المعلومة إنما أثبت وجودها لكن لم يذكرها. هناك كذلك ملاحظة أخرى وهي تدخل بعض الباحثين وفي الكثير من الأحيان لا نعرف من هم في طمس أخبار من صور مخطوط متداول لا نعرف على وجه التحديد سبب الطمس لكن من خلال السياق يتبين للقارئ أن لها علاقة بقضايا اجتماعية مثل أصول بعض الأسر أو أنسابها وهي مما لا يقبله المجتمع اليوم وهذا المثال واضح في مجموع إبراهيم بن عيسى رحمه الله المصور وأنا لم اطلع على أصل المخطوط ولذلك لم أتمكن من المقارنة بين الصورة والأصل.
بما أننا في معرض النقد، لا يمنع أن نشيد بتحرك ثقافي جميل بدأ بإخراج التاريخ المخفي قسرا من سجون بعض الأرشيفات الخليجية منه على سبيل المثال ما نشرته دارة الملك عبدالعزيز في شهر أكتوبر ٢٠٢٤ للأعمال الكاملة لإبراهيم بن عيسى وسيتبع هذه المجلدات مجلدات أخرى لهذا الرجل الموسوعي كذلك هناك مشروع أعلن عنه في دارة الملك عبدالعزيز من طباعة تراث خالد الفرج الشاعر والأديب الكويتي بعد الاتفاق مع أسرته. والأمر ذاته يتكرر مع مركز البحوث والدراسات الكويتية من خلال نشر كتب وثائقية لبعض الأسر الكويتية تساهم في توسيع الكتابة عن التاريخ الخليجي وتسهم في إثرائه وقد تكون هناك وثائق ومعلومات أخفيت قسرا في هذه الإصدارات لكن ظهور الكثير منها ونشرها أفضل من بقائها حبيسة تلك الأرشيفات.
التاريخ المخفي قسرا والتاريخ الرسمي: إشكاليات وعوائق
التاريخ المخفي قسرًا ليس مجرد إخفاء بسيط لأحداث معينة من الماضي، بل هو استراتيجية قد تكون متعمدة لتشكيل الذاكرة الجماعية بشكل يخدم المصالح السياسية والاجتماعية للنخب. يُعتمد على هذا الإخفاء للحفاظ على سرديات رسمية تمنح شرعية للنخب، وتجعل الفئات المهمشة تبدو غير ذات أهمية أو تأثير في تشكيل الهوية الوطنية مثلا. تهميش الطبقات الاجتماعية الأقل تأثيرًا، مثل العمال المهاجرين أو الأقليات الدينية، يؤدي إلى التحكم في كيفية فهم المجتمع لتاريخه، وبالتالي يتم فرض سرديات تُظهر النخب على أنها القوى الوحيدة الفاعلة في تطور المجتمع. هذا الإخفاء القسري للتواريخ الأخرى يعزز الهيمنة الثقافية ويضعف القدرة على خلق تنوع في السرديات التاريخية، مما يقوض فرصة المجتمع في النظر إلى تاريخه من زوايا متعددة.
التاريخ الرسمي غالبًا ما يخفي بشكل قسري التواريخ البديلة من خلال التحكم بما يصدر عن الأرشيفات الوطنية المحفوظة لدى الدول. القدرات المالية والإدارية تجعل من الصعب محاججة ومنافسة كتابات التاريخ الرسمي، لأن الأدلة التاريخية، والوثائق، والتسجيلات الشفهية غالبًا ما تكون متاحة فقط لمن يكتب في صالح النخب أو يتبنى رؤيتها للتاريخ. هذا الفعل يؤدي إلى سيطرة النخب الحاكمة على مصادر التاريخ ويحرم الباحثين المستقلين من الوصول إلى تلك المعلومات التي تمكنهم من إعادة بناء السياقات التاريخية بشكل أكثر عمقا. من المهم التأكيد هنا أن هذه المقالة لا تعنى بدقة أو صحة كتابة التاريخ الرسمي بقدر ما تحاول تسليط الضوء على أن التاريخ المكتوب في الخليج غير مكتمل، وأن سبب هذا النقص يعود إلى التحكم بالأرشيف ومصادر التاريخ، مما يؤدي بالضرورة إلى إخفاء جزء كبير من التاريخ بشكل قسري.
من الإشكاليات الأخرى لإخفاء التاريخ بشكل قسري والمرتبطة بشكل مباشر بالتاريخ الرسمي هو أن التاريخ الرسمي، بسبب تركيزه على فئات ومهن وأعراق معينة، دفع الكثير من أفراد المجتمع إلى الابتعاد عن ذكر تاريخهم إذا كان لا يتوافق مع ما هو مكتوب رسميًا. هذه الإشكالية لم تكن موجودة عند جيل التأسيس. فعلى سبيل المثال، في الكويت، من شهد فترة ما قبل النفط وما بعده لم يكن يشعر بالحرج من ذكر تاريخه الخاص، خاصة في المقابلات الشفهية التي تحولت فيما بعد إلى وثائق تاريخية مهمة. برنامج "صفحات من تاريخ الكويت" يُظهر بوضوح أن أصحاب المهن كانوا يتحدثون بتفصيل كبير عن طبيعة عملهم والمصاعب التي واجهوها. تحليل هذه المقابلات، توضح أن هؤلاء الأفراد كان لديهم اعتزاز بما يقومون به، حيث كانوا يذكرون عبارات مثل "هذه مهنة جدي وأبي" أو "عملت في هذه المهنة منذ أن كنت صغيرًا"، مما يدل على أن هؤلاء الفاعلين التاريخيين لم يكن لديهم إشكالية في سرد الواقع الذي عاشوه بدون أي رتوش تجميلية أو محاولة إخفاء الحقيقة.
في هذا السياق، المصطلحات المرتبطة بالهوية الاجتماعية، مثل النوخذة، عالم الدين، التاجر، الطواش، فارس القبيلة وشيخها، الصيدلاني، والمتعلم، أصبحت رموزًا يحاول الجيل الحالي التمسك بها. هذا التمسك يعود إلى أن الكتابة الرسمية للتاريخ منحت هذه الفئات قيمة رمزية عالية، في حين تركت غيرها من الفئات والمهن في الظل. هذا التقدير الممنوح لبعض المهن والفئات الاجتماعية يعزز من أهمية الطبقات النخبوية ويهمش في الوقت ذاته الطبقات الأقل تأثيرًا التي لعبت دورًا حاسمًا في تطور المجتمعات الخليجية.
إحدى الإشكاليات الكبرى في هذا السياق هي أن التاريخ المخفي قسرًا ليس فقط مشكلة تتعلق بالماضي، بل هو أيضًا إشكالية تمس الحاضر والمستقبل. من خلال تهميش روايات معينة وإخفاء أحداث تاريخية، تُفرض هوية معينة على المجتمع تخدم مصالح النخب، مما يساهم في تعميق الانقسام بين الماضي الموثق والماضي المنسي. هذا يؤدي إلى ظهور فجوة في فهم الأجيال الحالية والمستقبلية لتاريخها، حيث لا يتمكنون من رؤية الصورة الكاملة لديناميكيات التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي عاشته مجتمعاتهم.
بالإضافة إلى ذلك، النقد الموجه للتاريخ الرسمي غالبًا ما يواجه مقاومة سياسية واجتماعية. الدول في الخليج تعتمد على التاريخ الرسمي كأداة لتشكيل هوية وطنية موحدة ومتماسكة، وهو ما يجعل أي محاولة لطرح سرديات بديلة أو تسليط الضوء على تاريخ مخفي قسرًا تُعتبر تهديدًا لهذه الوحدة. في ظل هذه البيئة، يتم تصوير محاولات تصحيح التاريخ أو تقديم روايات بديلة على أنها هجوم على الوطن أو تهديد لاستقراره. هذا السياق يخلق بيئة معقدة مليئة بالإشكاليات التي تجعل من الصعب إجراء نقاش مفتوح حول التاريخ، خاصة في ظل السيطرة المستمرة على الأرشيفات والمصادر التاريخية من قبل النخب الحاكمة.
أما من الناحية الثقافية، فإن الضغط المجتمعي على الأفراد لاتباع الرواية الرسمية للتاريخ قد يؤدي إلى تقليص حرية التعبير عن الهويات الفردية والجماعية. الأشخاص الذين ينتمون إلى الفئات التي تم تهميشها تاريخيًا قد يتجنبون الحديث عن تجاربهم الشخصية أو تجارب أسلافهم بسبب عدم توافقها مع الرواية الرسمية. الروايات الرسمية للتاريخ أصبحت تحمل قيمة رمزية كبيرة، ما يجعل من الصعب على الأفراد الذين يمتلكون روايات مختلفة أو متعارضة أن يعبروا عنها أو يتحدثوا عنها علنًا دون مواجهة نوع من التجاهل أو حتى الانتقادات. وهذا يعزز من استمرارية الهيمنة الثقافية والتاريخية للنخب، ويضعف قدرة المجتمع على النظر في تنوع هوياته ومكوناته.
إشكالية مثل إشكالية الهوية الوطنية والمواطنة في الكويت مثلا تنبع إلى حد كبير من سيطرة السرديات الرسمية على كيفية تشكيل الهوية. هذه السرديات يتم الاعتماد عليها لتحديد من هو المواطن ومن يستحق الانتماء الكامل إلى للتاريخ. في هذا السياق، يعتبر الولاء للنخب التقليدية جزءًا من بناء المواطنة، ولذا يستخدم التاريخ الرسمي في إخراج فئات اجتماعية حتى وإن كانت تحمل الجنسية الكويتية وهم مواطنون كويتيون بسبب عدم ذكرهم في الرواية الرسمية للتاريخ. ثم يُنظر إليهم على أنهم فئة غير مرغوب فيها أو أنها فئات دخلت في المواطنة في غفلة من الزمن وهذا للأسف ينافي المواد الأساسية في الدستور الكويتي والقوانين من حيث أن الحقوق للمواطنين الكويتيين كلها متساوية.
إعادة كتابة التاريخ لتشمل هذه الفئات المهمشة يعني الاعتراف بتعددية المجتمع وفتح الباب نحو مفهوم أكثر تنوعًا وشمولًا للمواطنة، حيث يتم تقدير الأفراد بناءً على مساهماتهم في المجتمع وليس بناء على حجم وجودهم في التاريخ الرسمي المكتوب.