I.
"لم نستيقظْ على شيء غير متوقّع، كلّ الإجراءات التي كُنّا نُسيّرها بشيء من الصعوبة ــ لكن في النّهاية "بتقطع"ــ باتت اليوم شبه مُستحيلة! منذ بداية الأزمة في خريف العام الماضي، (تشرين 2019) كنّا نقول إنّ الشهر القادم سيكون أسوء وكارثياً، وبالفعل نحن الآن نعيشها "وصلنالها" نحن في قلب كارثة لا يُعلَم متى ستنتهي؟" (تاريخ المقابلة: 22/3 /2020)
بهذه العبارات، لخّص أحد السائقين مأزق العبور الذي تشهده الحدود السوريّة اللبنانيّة، منذ آذار الفائت. سائق سيّارة الأجرة هذا والذي يعمل بمهنته وعلى نفس الطُّرُق، لأكثر من 15 عاماً، لم يكُن يعرف أنّ رحلتَه، أو مشواره الأخير، كما يُحبّ أن يسميَه، سيحوّلُه إلى "أسير" في لبنان، ولا يستطيع العودة إلى سوريا، بسبب إغلاق الحدود!
تدخلُ أزمة إغلاق الحدود شهرها السّادس، مع كتابة هذه السّطور، إغلاقٌ نافذٌ قرارُه رسميّاً من كلا الجهتين: السورية بتاريخ 23/3/2020 واللبنانيّة قبلها بأسبوع أي بتاريخ 15/3/2020؛ وذلك ضمن الإجراءات المُتّخذة للحدّ من انتشار فيروس كورونا، الأمر الذي يُعقّد على المواطنين السّوريين في لبنان في أيّ اتجاه ينظرون؟ ودوائرَ أيّ بلد يناشدون؟ ولو أنّ هذا الإغلاق قد تخلَّله بعض الفتح الجزئي والمشروط، لتظلّ الأزمة مُعلّقةً تنتظرُ حلولاً نهائيّة. آخر فصول هذه المأساة هي وفاة أحد المواطنين العالقين بأزمة قلبية، وتمّ نقله إلى مشفى زحلة، ثم تجمّع لعدد من المُحتجين عند معبر جديدة يابوس صارخين "سوريا نحنا ولادك، سوريا افتحي بوابك"، فلا معبر الجديدة السّوري يسمح لهم بالتقدم، ولا معبر المصنع اللبناني يسمح لهم بالتراجع.
تتذبذبُ أعداد العالقين صعوداً وهبوطاً، منذ أول الإغلاق إلى اليوم، كونه لا توجد آلية للفتح الجزئي فبتاريخ 18/ 4/ 2020 مثلاً سمحت السلطات السورية بالدخول لـ62 شخصاً، لكنّ مقاطع فيديو صورها أحد العالقين في تاريخ 7/ 7/ 2020 تُظهِر عدداً يُقدّر بالمئات مازالوا عالقين على الحدود ولا يبدو أنّ أحدا قد سمع بهم أو يُفكّر بإيجادِ حلٍّ لهم. وبُعيد الانفجار المروّع الذي ضرب مرفأ بيروت بتاريخ 4/ 8/ 2020 انكشَفَ أنّ ثلث الضحايا من العمّال السوريين، أي قرابة 53 شخصاً بينهم أطفال ونساء. إذ يُمكن من خلال هذه النسبة تصوُّر مدى الحركة أو الارتباط المكاني من جهة، بالانتشار الجغرافي من جهة ثانية للعمّال السوريين في لبنان.
مع ذلك، قد لا تحملُ هذه الأزمة نوعاً من الخصوصيّة، أو الإلحاح في إيجاد حلول ناجعة، عند النّظر إليها بعين البيروقراطيّة البادرة، التي لا تكتفي بتقطيع أعناق وأرزاق الفئات الأشد فقراً من المُجتمع السوري، تلك الفئات المعتمِدَة على المياومة في نمط عمالتها وإنتاجها، مثل هؤلاء السائقين وغيرهم من عمّال بناء أو مرافق سياحيّة، ما عدا اللاجئين والنّازحين منهم. إنّما تُقطّعُ هذه البيروقراطية أيضاً، أوصالَ جغرافيا سياسيّة متهالكة، تستثمر فيها أطرافٌ سياسية/حزبيّة شتّى منذ بداية أزمة النّزوح السّوري إلى لبنان. هنا، لا نستطيع أن نُحيّدَ لبنان بوصفه ساحةَ صراع لمحاور إقليميّة ودوليّة، ليست تلك الأطراف الحزبية الداخلية إلّا تمثيل لها. ولا نستطيع بالمقابل أن نغضّ النظر عن خطاب الشّحن والكراهيّة الذي تستخدمُه بعض القنوات الإعلامية، قنواتٌ لم توفّر هذه المأساة وعَمِلت على تلويثها، وكأنها لم تكتفِ بما لوّثته سابقاً من قضايا سوريّة حَقّة. إنّ تلك البيروقراطية تجدُ مُبرّراتها بالتّعاطي البارد مع وباءِ كورونا على أنّه أزمة عالميّة غير مسبوقة، ليست محليّة وحسب، وأنّ لا حلول أرضيّة له تلوح في الأفق القريب. عندها فقط يستوي في القياس البيروقراطي التَّعِس حالُ المُقارنة بين دُول الاتحاد الأوربي مثلاً، وبين بلدين غارقين بالأزمات المالية والاجتماعيّة مثل سوريا ولبنان!
بدايةً، سأجادل في هذا المقال، في المُقدّمات الاجتماعية والاقتصادية لكلّ تلك الأزماتِ الضّاربةِ جذورَها في سنوات سابقة، قبل أن تنفجر مع أزمة كورونا في الشهر الثالث من هذا العام. وصولاً إلى الحدث الأكثر تدميراً، والمتمثّل بانفجار مرفأ بيروت، في الشهر الثامن منه. وبالتّالي لا يَصحُّ تصوير الواقع على أنّنا أمام مُشكلات آنيّة، جلبها لنا عامٌ ذو حظوظ سيّئة، إنّما هو تراكم عميق. ثم سأنتقل بعد عرض هذه المقدّمات إلى فقرة ثانية لأنظرَ في الإجراءات الرّسميّة التي اتُّخذت من أجل المعالجة، وسأتفحّص مدى نجاعتها من عدمه، وهل هو سعي جادٌّ بالفعل نحو الحلّ؟
II.
أتحدّث في هذه الفقرة عن مُلخّص الأزمات والتّحدّيات التي تواجه العّمال السّوريين في لبنان، والتي يُمكن تجميعُها أو تصنيفُها ضمن ثلاثة عوامل أو مقدّمات، بما يكشفُ الجذورَ العميقة. سأتوقّف عند العامل الأول الأكثر كَشفاً وتأثيراً، ألا وهو الأزمة المصرفية الاقتصاديّة التي يُعاني منها لبنان. ثم أنتقل لتبيان العامل الثاني من خلال الحديث عن الواقع الصّحي بعد تفشّي وباء كورونا عالمياً ومحليّاً. أخيراً أتفحّص الطّابع التّراكمي والتّدريجي الذي أخذته الأزمة في التّبلور بشكلها الحالي، وهذا ما يظهر في العامل الثالث عند الحديث عن اللّجوء السوري في لبنان، واشتغالات الحرب الدائرة في سوريا منذ تسع سنوات فيه. فإلى أيّ هذه المقدّمات يُمكنُ أن ننظرَ بدايةً؟
أولاً: أزمة القطاع المَصرفي التي انفجرت خريف العام المنصرم، وهي اليوم تهدّد لبنان بانهيار قيمة العملة الذي لا يُمكن أن يعود لما كان عليه في أيلول 2019 قبل 2040 حسب إحدى المنشورات اللبنانيّة المُختصّة، وتراجع القوّة الشرائية عند المواطن اللّبناني، إلى مستويات متدنّية غير مسبوقة. فما علاقة؟ أو كيف انعكس هذا العامل الخطير على أزمة العبور؟
منذ اندلاع الأزمة المالية، وما رافقها من احتجاجات مناهضة لهيمنة المصارف، وسياسة القائمين عليها، بدأ لبنان يشهد "هجرة عكسيّة" إنْ صحّت التّسمية، عصفت بالأيدي العاملة السّورية فيه. لم نستطع الوصول إلى أرقام دقيقة في هذا الصّدد، منسوبة إلى جهات رسميّة معنيّة بشكل خاص بهذا الملف، ولكن عمدنا إلى محاولة تقريبيّة لفهم ما يحدث من خلال:
1. مراجعة بعض التقارير الصّحفية المتابعة لشؤون العمالة السورية حينها، والتي تعود إلى هذه الفترة الزمنية من العام الماضي. يُنظَر مثلا إلى: من تفاصيل الحملة على عمالة السوريين في لبنان. (في صيف العام المنصرم 2019)
2. العودة إلى الطريقة التقليدية والشفهيّة؛ بالتواصل مع عدد من العاملين في قطاعات تشيع فيها العمالة السورية (خاصّة: المرافق السياحية والبناء) نستطيع أن نلمسَ هذا الاتجاه من الهجرة، قد تبلورَ مع نهاية صيف العام الماضي. كما أنّها هجرة تأخذ صفة "القطعيّة" إذ لا يُفكّر أصحابُها بالعودة إلى لبنان مرّة أُخرى! وهذا ما كان يُفكّر فيه الكثير من الشّباب السوري العامل في لبنان.
التقينا في أحد الفنادق بمنطقة بيت الدّين، بمجد وهو شابّ سوريّ يبلغ من العمر 27 عاماً، ويعمل بمجال الفَنْدَقة يقول: (مجرد ما انتهتِ المهرجانات، سأحزم أغراضي وأعود إلى سوريا ومنها سأفكر ببلد جديد لأسافر، إما الخليج أو أربيل، ولكن ما أنا أكيد منه إلى هنا لن أعود مرّة ثانية) تاريخ المقابلة شهر 8/2019. ملاحظة: هذا العام أي صيف 2020 لم تُقَم تظاهُرة "مهرجانات بيت الدّين" السّياحية، والأمر ينسحب على سائر النشاطات، بسبب الحظر الكوروني، وانخفاض القدرة الشّرائية.
أمّا بالانتقال إلى القطاع الأوسع الذي تشغله العمالة السورية، قطاع البِناء والتّعمير، فالتقينا بفارس، وهو شاب سوري أيضاً، ويبلغ من العمر 30 عاماً، وقد جرّب الكثير مما يسميه "تنقيل المصالح" قبل أن يثبتَ على المِهن الحُرّة فيقول: (كنتُ أعمل في بيروت لأعوام سابقة، ولكن بسبب التضييقات الأخيرة، انسحبتُ إلى منطقة الجبل، لأنني لا أستطيع أن أعود مباشرة إلى سوريا فأنا مُتخلِّف عن الخدمة الإلزامية، مع ذلك لا أتوقّع أن أمكثَ هنا طويلاً، فالأجور أقلّ ممّا هي عليه في بيروت) تاريخ المقابلة شهر 6/2019. ملاحظة: يقصد فارس بالتضييقات الأخيرة: هي القرارات الصادرة عن وزارة العمل اللبنانية حول شروط استخراج شهادة مزاولة عمل للعاملين الأجانب. والمرسوم قديم وليس جديداً، ولكنّ التشديد الفجائي عليه حينها، والحَمْلة الإعلامية التي تحدّثنا عنها أعلاه: من تفاصيل الحملة على عمالة السوريين في لبنان وما رافقها من تغريدات وزراء ومانشيتات صحافة مُسيّسة، كلّ هذا أثار جدلاً وخوفاً، وذلك لعدم تناسب تكاليفه العالية مع الأجور المتدنّية للعمالة الأجنبيّة.
لم يُعمَل طبعاً على تطبيق القرارات في ذلك الصيف، إلّا في المدن الكبرى مثل بيروت وطرابلس، حيث تبدو قبضة شرطة البلديات وهيبة الدولة أقوى، في حين تمّ التغاضي عن التّدقيق والتّفتيش من خلفه في المدن الصغرى حيث تقوى العُصَب الأهلية والزعامات المحلّية مثل مناطق: الجبل والبقاع والجنوب. نستنتج من هذا، إنّ الأزمة الماليّة هي الجذر الضارب والأقوى لحركة وكميّة العابرين في أيّ وقت، وأنّ ما قاله السّائق العامل على الخطوط البرية بين البلدين من "أنّه ما من شيء يحدثُ فجأة أو غير متوقع" هو بالفعل توصيف دقيق لجبل جليدٍ، رأسُه بادٍ في عام 2020، وأصلُه الثقيل متمكّن في السنوات السابقة وبالأخص 2019 ونكباتها الماليّة.
ثانياً: الأزمة الصّحيّة العنيدة المُتمثّلة بكورونا. إذ يُمكنُ الاستعانة في توصيفها وما فعلتهُ باقتصادات بلادنا بمصطلحات الفعل والقوّة، (لو استعرنا شيئاً من معجم التّطوريين) فإنّ جائحة كورونا هي اليد التي أسقطتِ الثمرة، ولكن للأسف فإنّ الثمرة التي سقطت لم تسقط بفعلِ النّضوج المُبشّر بالخير، بل بفعل الفساد والتّعفُّن الذي كان يعملُ فيها عملَ النّأمة أو الحشرة الطفيليّة لعقود طويلة!
لقد سجّل لبنان الإصابة الأولى بفيروس كورونا خلال شباط الفائت، وأعلنتِ السلطات فرض الحظر في اليوم الأخير من ذلك الشهر، ومن ثمّ دخلتِ البلاد في نَفق طويل من الحظر حتى 6 تموز 2020؛ لتعودَ لجنة متابعة التّدابير الوقائية وتفرضَ من جديد بتاريخ 25 تموز 2020 مستوى من الحَجْر ولمدّة أسبوعين، أي حتى 10 آب 2020. ونستدعي من الذّاكرة القريبة أنّ يومي الرابع والخامس من آب لم يكونا ضمن أيام الحظر، مما جعل الكثير من التعليقات الناقدة تنصبّ على قرارات وتدابير التعبئة العامة، وكأنّ الفيروس ينتقل بأيّام معيّنة. ولكن أشدّ المتشائمين لم يكن يتوقّع أنّ يوم الرابع من آب سيحمل أبشع ذكرى في تاريخ لبنان المُعاصر، والتي ستتحوّل إلى نُدبة عميقة في وجه المدينة، خلّفتها أيدي الطّبقة البيروقراطية المُتنفّذة، وتبرهن على لا مبالاتها وإهمالها الكارثي في الإدارة.
ظلّت القطاعات التجارية اللبنانية تُداري الشّلل التّامّ، الذي أخذ يستفحل مع تطاول مدّة الحظر، دون أي نتيجة تُذكر على صعيد الحد من انتشار الفيروس، ولو أنّ عدد المسحات يوميّاً تتضاعف، وهذا شيء إيجابي على صعيد تطويق الوباء، لكنّ عدد الإصابات ما زال في ازدياد بالغاً 21877 إصابة، (ويمكن متابعة تحديثات الإصابات عبر الموقع الخاص الذي استحدثته وزارة الصّحة اللبنانية) حتى تاريخ كتابة هذا المقال. وبطبيعة الحال فإنّ قواعد العمالة السّوريّة، أو ما يُمكن وصفهم بـ"من تبقّى منهم" كانت الأشد تضرّراً؛ لفقدانها أبسط حقوقها إنْ كان في الضّمان أو التأمين الصّحي. لكنّ انفجار المرفأ جاءَ ليقطعَ مع كل تلك التّدابير، ويُقزّم الجهود أمام فداحة الكارثة، وما خلّفته من ضحايا نازهوا 191 وقرابة ستة آلاف جريح. وفقاً لما أعلنته وزارة الصّحة بتاريخ 3 أيلول/سبتمبر 2020. أكثر من ثلثهم عمّالٌ سوريون، وبينهم نساء وأطفال أيضاَ.
ثالثاً: أزمات الّلجوء السوري التي تخرج من نفق لتدخلَ آخر حسب تمرحلات الحرب في سوريا. هنا يجب التمييز بين العمالة السورية التي تحدّثنا عنها في الفقرتين السابقتين، وبين اللاجئين السّوريين. ففي حين يمكن الذهاب إلى القول عن الفئة الأولى من العمالة السورية إنّها تأتي من خلفية سوريّة للبيئات الأقل تضرّراً من الحرب (الضّرر بمعناه المادي وليس الاقتصادي المُعمّم والذي لم يَسلم منه أحد) وبالتالي هي فئة في نسبتها العُظمى ذات وجود قانوني في لبنان (المقصود بالقانوني هنا: نِظام الكفالة الذي أُقرّ نهاية عام 2014، وكان العامل الأساسي في الحدّ من تدفّق العمالة السّورية إلى لبنان) وصولاً إلى أنّ هذه الفئة هي المعنيّة أكثر بأزمة العبور؛ كونها تعمل لفترة من الصّيف في لبنان وتعود إلى سوريا شتاءً.
إنّ الوجود لعناصر هذه الفئة على الأراضي اللّبنانية قانونيّ، وبالتالي فإنّ تنظيم حركة عودتها يأتي من مهمّات السّفارة السوريّة في بيروت. وفي حال تفحَّصْنا هذه الفئة عُمريّاً، لوجدنا أنّ نسبةً كبيرة من هؤلاء العُمّال، هم شبابٌ في سنّ السّوق إلى الخدمة الإلزامية، وغاية عملهم في لبنان ليس تأمين العيش وحسب، بل أيضاً تأمين بدل نقدي عن الخدمة العسكريّة، يدفعونه بعد قضاء أربع سنوات خارج سوريا. وتنظّم السّفارة السورية في بيروت كلّ ما سبق من المعاملات والأوراق الثبوتية، بمجرّد خروجهم من سوريّا إلى حين دفعهم قدر البدل (8 آلاف دولار) بوصفها قناةً شرعيّة ضروريّة. كما لا يستطيع المرء الوصول إلى السّفارة إلا إذا كان وجوده قانونيّاً في لبنان، بسبب نَصْبِ حواجز للجيش اللبناني على مقرُبة من السفارة تُدقق في الوضع القانوني والشّرعي، لمُراجعي السّفارة. قد تبدو هذه الالتفاتة بعيدة بعض الشيء عن موضوعنا للقارئ العادي، ولو أنّ الباحث المُهتم بالتّفاصيل عليه أن يبني شبكة تحليله انطلاقاً من هذه الجزئيات اليوميّة الميكروــ سلطوية والتي يَخضع لها آلاف البَشر، وتعنيهم بشكل كبير. وللتأكيد أنّ جبل الجليد يستقي قوّته وعِنادَه من جانبه الخفي لا الظاهر فحسب.
أمّا الفئة الثّانية من العمالة السّوريّة، الموسومة باللّجوء السّوري في لبنان، فهي فئة غير مُصرّح لها بالعمل أساساً. كما أنّها تنحدر من بيئات سوريّة أكثر تضرُّراً من الحرب وتكاليفها المادّية المباشرة من تدمير منازل وفقدان المأوى. وتشغلُ العائلاتُ بنيتَها التّكوينية في طابعها الغالب. أمّا إقامتُها فمحددة بالعيش ضمن مُخيّمات النزوح بمعنى إنّها: إمّا تعرّضت لتهجير قسري، أو خسرت مأواها ومنازلها في سوريا. بالتالي هي عاجزة عن العودة إلى موطنها بشكل مُباشر، أو بالوقت الذي يفرضُه عليها الآخر. كما أنّ هذه الفئة من اللاجئين السّوريين، يعانون من وضع مُزرٍ ليس وليد اليوم، ويُستفاض في شرح تفاصيله، وتعاطي الإعلام معهم يكون بطريقة نمطيّة مُجحفة، بالرّغم من أّنهم في عين العاصفة الماليّة، والصّحية الوبائيّة التي تتهدّدُ لبنان!.
يجب لفتُ النّظر، طبعاً، إلى أنّ التعاملَ مع هاتين الفئتين يمرّ من خلال التقاطعات المُشتركة بين الدائرتين، وليس بوصفهم جُزراً معزولة عن بعضها بعضاً.
تُلخّص السّطور السّابقة بعضاً من الآليات الرّسمية، وغير الرّسمية للتعامل مع الفئات المُتضرّرة جراء الإجراءات الحدودية الاعتباطية بين سوريا ولبنان، وما يوازيها من إجراءات بيروقراطية ضمن لبنان، والتي تنعكس بشكل متفاوت على حياة العمال السوريين بحسب وضعهم المقونن وطبقاتهم الاجتماعية. لكنّ المشكلة في هذه المقاربات أنها تبدو قريبة من لغات التقارير الحكومية وغير الحكومية المَهووسة بتصنيف الأزمات، والتَّعامُلِ مع النّاس كعيّنات قيد الدّرس.
سأحاول الآن قدر الإمكان، بعد هذه المُقدّمات الموحية بـ"انسداد" يَقتلُ ببطء، أن أتابعَ المقال، في الفقرة التالية، مبتعداً عن ثنائية استسهال رمي الحلول من جهة، خاصّة ذات اللون الثوري السّحري الفاقع، أو بثّ نبرة التّعجيز واليأس من جهة ثانية. لأنّ كلا القطبين في هذه الثنائيّة يتمّ استغلالهما بابتذال سياسي واضح، ونشهده يوميّاً، وتقطف ثمارُه أطراف حزبية أُشيرَ إليها أوّل المقال. فلا الأمل لأجل الأمل، وبالتّالي بيع الأوهام للنّاس، ولا اليأس المحض، يُجديان نفعاً من غير سياق سياسي واجتماعي واضح يُمكنُ الاحتكام إليه.
III.
أنتقلُ في هذه الفقرة إلى الحديث عن بعض الإجراءات الحكومية الرّسمية التي اعتُمِدَت من أجل معالجة الأزمة، ونتفحّص ومدى نجاعتها ومسؤوليتها من عدمه؟
وقعتِ الحكومتان السوريّة واللبنانيّة تحت ضغط كبير، مع بداية جائحة كورونا، وأظهرتا في بعض التّعامل شيئاً من التّخبط في القَرارات. عملت الحكومة السورية، في أوّل الأمر، على تطبيق الحظر الصّحي، وفرضت حظراً للتجوّل، وقامت بعزل الأرياف عن المدن، واستنكفت عن قرارات السوق إلى الخدمة الإلزامية، لمدّة مُعينة من الشهر الرابع لهذا العام. إلاّ أنّها تلقّت الكثير من النّقد والاستنكار من ناحية عودة المواطنين السّوريين في الخارج، بسبب اعتمادها آليّة بطيئة جداً من خلال تّسجيل أسماء الرّاغبين في العودة في السفارات. من جهة ثانية وهي الأهم والعامل الرئيسي لحلّ معضلة العبور والعودة، ألا وهي توفير أمكنة الحجْر اللائقة والقَادرة على استيعاب الكميّات الكبيرة من العائدين. قبل أن يتطوّر الوضع مع بروز مشكلة ضاغطة أكثر، وهي تزايد أعداد القادمين من المعابر البرية التي تصل سوريّا بلبنان. طال الحديث كثيراً حول هذه النّقطة، لكنّ أكثرَ ما يعنينا هو ارتباط كميّة وأعداد العابرين من خلال معبر المصنع ــ جديدة يابوس، وهو المعبر الرئيسي بين البلدين، بأماكن الحَجْر التابعة لهذه النقطة الحدودية، وهو مركز الدّوير. الذي أعلن أحد المسؤولين الحكوميين في منتصف شهر حزيران أنّه نُقِل 900 شخصاً من العالقين على الحدود إليه.
بِمقارنة سريعة بين الطاقة الاستيعابية لهذا المركز، وهو أساساً مركز لنشاطات منظمة الطلائع، واعتماده من قبل الحكومة ليكون مقرّاً لحجرِ العائدين عن طريق مطار دمشق أيضاً، بغض النّظر عن بلد العودة، وبين أعداد الراغبين في العودة، نجد أنّ خطوط النّقل الجوّية تشتبك مع الخطوط البرّية، لأنّ مركز الدوير مُرتبط أيضاً بالقادمين من خلال مطار دمشق. عندها يستدير الزّمن بصورة بطيئة قاتلة، ويبدو إنقاذ ما يمكن إنقاذه أشبه بحرب استنزاف تصوَّب على القدرات المادّية للقطاع الصّحي السوري. هذا القطاع الذي لم يَخرج بعد من حرب عمرها تسع سنوات مازالت آثارها بادية عليه. ثمّ ليكللَ قانونُ قيصر هذا الواقع الصّعب، بتصويبه العشوائي، وهو صورة عن عقلية المنتقمين الذين صاغوه والإدارة الأمريكية التي تبنّته، ليفرضَ حصاراً خانقاً ضحيّته المباشرة الشّعب السوري.
هذا من ناحية العوامل الموضوعيّة التي تُكبّل الأداء الحكومي السوري عن إنجاز دوره بطريقة لائقة، لكنّنا ما إن نُقلّب النّظر في هذه العوامل، حتى نصطدمَ بعوامل ذاتيّة وقرارات كان بإمكان الحكومة ألاّ تقرّها. بل إنّ إقرارها بهذه الخفّة يظهرُها بمظهر من يستثمر في الأزمة، وليس الحريص المُفتّش عن حلٍّ لها، ونحن هنا نتكلّم عن القرار الأخير لوزارة الماليّة المتمثّل بإجبار السوريين القادمين من الخارج على تصريف مبلغ وقدره 100 دولار، وفقاً لسعر الصّرف الذي حدّده البنك المركزي السوري. صدر القرار بدايةً مطلع الشهر السادس من هذا العام، وبالرغم من الاستياء الكبير الذي لاقاه، حتى في أوساط من داخل التشكيلة الحكومية السابقة. لكنّ الأمر لم يتغيّر حتى مع انتخابات مجلس الشّعب، وتشكيل حكومة جديدة التي لم تخطُ صوبَ تقديم أي مُبادرة جدّية إلى الآن. بل إنّ تصريحات مدير الهجرة والجوازات اللواء ناجي النّمير، التي وصف بها العالقين على الحدود بلا مأوى، بأنّهم يمارسون حياتهم الطبيعية إلى حين دفعهم مئة دولار، يُمكن وصفها بالاستهتار وقلّة الحرص، وعدم تبدُّل العقلية التي تُدار بها الحكومات في سوريا سواء القديمة أو الجديدة. طبعاً لن نقف على الفوارق الرّقمية الدّقيقة بين سعر الصّرف المُعتمد رسمياً، وبين ما يتمّ الاحتكام إليه في السّوق السّوداء، لأنّه حديث غايته الدخول في صراخ إعلامي لا طائل منه، كما أنّ الخسارات الحقيقيّة للأوطان لا تُحتسب بهذه العقليّة.
لكنْ لو تجاوزنا كميّة النقد والسّخرية التي تعرّض له هذا القرار، وتمعنّا بالواقع المعيشي لمادّة مقالتنا هذه (أقصد: السوريين القادمين من لبنان تحديداً) لاكتشفنا مدى كارثيته. فمن حيث يُلزَم المواطن السوري بتأمين فحص (بي سي آر) من مشافٍ حدّدها مُسبقاً الأمن العام اللبناني، وبتكلفة 150 ألف ليرة لبنانيّة للمَسحة الواحدة، الفحص المعتمد والذي يُخوّل صاحبَه من عبور الحدود. وقد أيّدت هذا الإجراء الوقائي السّفارة السورية في بيروت من خلال بيان على صفحتها الرّسمية على الفيسبوك. عليه فإنّ قرار تصريف 100 دولار (بالدولار حصراً) يُفاقم معاناة العودة، ولا يَأخذ بعين الاعتبار واقع انعدام العمل كلّ هذه الشهور وتوقّف عجلة الإنتاج أصلاً، ويُشكّكُ بالموقف الأخلاقي للمواطن العائد إلى بلده، لِيُنْظَرَ إليه بوصفه شريكاً في شحّ العملة الصّعبة وانقطاعها وصعوبة توافرها من كلا البلدين. كما أنّه يدفع بالكثيرين للّجوء إلى خيار التّهريب والمعابر غير الشرعية ذات الأسعار المُنافسة، والتّشجيعية، بتوصيف ساخر! ومن نافل القول الحديث عن مدى خطورة هكذا خيار! وقد سُجّل مؤخراً حالة وفاة لفتاةٍ حاولت دخول لبنان بهذه الطريقة.
فهل لنا بعد هذا العرض البسيط، أن نتصوّرَ حجم التكاليف المُطالَب بأدائها عاملٌ قد يضطرّ للعمل شهراً كاملاً حتى يؤمّنَ هذا المبلغ؟ إنّنا لا نبالغُ أبداً بوصفه بالثمن الباهظ نسبة لأحاديث يأملُ المرء ألا تكون صحيحة عن مجاعة تتهدّد البلدين.
IV.
أخيراً: تناولَ هذا المقال بعض مُسبّبات أزمة العبور الحاصلة على الحدود السّورية اللّبنانية، وتفاصيل القرارات والقوانين المؤثرة في حركة النّزوح والعمالة خلال السنوات السّابقة. سعيتُ من خلاله، ألّا تظهرَ هذه الأزمة على أنّها كارثة طبيعية حدثت في يومٍ وليلة، وتنتظر حلّاً سحرياً من السّماء. قد تطول إجراءات الحلّ والعلاج، ولكنّ التعويل على المُباشرة فيها والتّسريع بتبنّيها، يقومُ أولاً على اقتناع القائمين عليها بأنّ هذا واجبهم، وليس مِنّة لهم على ناس تتضوّر جوعاً، وتباتُ في العراء.
يبدو الحديث اليوم عن واقع الحدود بين البلدين مُثقلاً بالشجون، بالرّغم من أساطير التّغني الطويلة بوحدة المَسار والمصير بين الشّعبين الشّقيقين. ومن المصادفات أنّ هذا العام هو الذكرى المئوية الأولى لإنشاء دولة لبنان الكبير بُعيد سنوات من مجاعات الحرب العالمية الأولى. ليس المقصدُ بهذه الإشارة التّاريخية وجود شيءٍ قَدري، يحكمُ بلادنا أو التّشكيك الجوهري بمصير شعوبنا، بل على العكس تماماً، إذ قليلاً ما تعني هذه المناسبات سوى المُنسحبين من مآسي الحاضر والعجز أمامه، إلى استحضار الماضي المُريح، كلٌّ حسب سرديته.
يدفعُنا الواقع المؤلم الذي نعيشه اليوم في المنطقة إلى التساؤل عن المهام الوطنيّة التي يجب إنجازُها، وإلى أي مستوى من مشاكل الشّعوب يجب أن يُنْظَرَ، سواء أولئك الذين أبّدوا أنفسهم في السّلطة حتى صارَ لا فِكاك لهم منها، أو المتنطّحين لمعارضتهم والسّاعين إلى تَمَلُّكِ المُلْك لأجل المُلْك.. لا لأجل النّاس.