في وقت تختلط فيه المفاهيم ويضيع الخيط الجامع للذوق والفن بصفته مؤدِّباً للطفل كم وصاقلاً لذائقة الكبار، تنجم مخاوف مبكرة ولكنها حقيقية من تأثير الهرطقات التي تُبث على قنوات الأطفال على ذائقتهم، هذا التأثير الذي قد يتجاوز مرحلة الطفولة للتحكم برغباتهم وتطلعاتهم حتى عمر متقدم، مما يعني أن القنوات تلك تمسك بيدها مصير مجتمع بالمعنى الاستراتيجي.
في هذا الوقت تبدو الحاجة ملحة للانتباه إلى هذه المنطقة الرخوة، والعمل على تعزيزها بما يوسع آفاق الأطفال، ويمرن ذائقتهم على النمو عالياً، ويفتح نوافذ التأمل أوسع، والحقيقة أنه ثمة غفلة عن هذا الأمر، كغفلات أخر عن أمور ليست بأقل أهمية في بلادنا، وبرغم ذلك فثمة نماذج مبشرة دائماً، أجد منها "ألبوم فهيم" الذي يستحق المراجعة والحديث عنه.
الألبوم من إنتاج مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي وبدعم من التعاون الألماني، وقد احتوى على 8 أغنيات، تدور مدة كل منها في فلك الدقيقتين، كتبها كلها مجد كيال، ولحنها فرج سليمان، وأداها كل من الطفلين فهيم أبو حلو وحلا قسيس، باللهجة الفلسطينية.
رفع مستوى التأمل
يخوض الثنائي مجد كيال وفرج سليمان، اللذين سبق وتعاونا في إنتاج ألبوم "أحلى من برلين" كاملاً، وتعاونا في بعض أغنيات ألبوم "البيت الثاني" وهما ألبومان للبالغين، يخوضان في ألبوم فهيم تجربة مغايرة، ليس لما قدماه سابقاً فحسب، إنما لما يُقدم مؤخراً في مجال أغنية الطفل، إذ يقتربان في ألبومهما من تجارب محمد فوزي، التي تقدم مقولة كاملة يمكن أن يبني الطفل من خلالها معرفة، كما في أغنية "ماما زمانها جاية" وما تحويه من نصائح وعبر، بل إنهما يتجاوزان هذه المحطة لحضّ الطفل على رفع مستوى التأمل، وفي أحيان أخرى على رفع مستوى الطموح والتطلعات، ويبدو أن مجد كيال سعى خلال كتابة الألبوم إلى رؤية العالم بعيني الطفل، والحديث من خلاله، بما يعني أنه لم يتبع أسلوب إملاء الأفكار والأحكام وربما الأحلام على المتلقي الطفل.
في أغنية بديش أنام، يخاطب رغبات الطفل الأولى في التمرد، وتغيير برنامج وساعات النوم، لصالح السهر مع الأهل، والتصرف كالكبار:
بدّيش أنام بدّي أسهر
بدّي ألعب بدّي أحضر
أبني قصر مخدّات
وأستنى الوقت يتأخر
يلا فوت على التخت
قوم نام، لأ مش قايم
بدي أغفى على الكنباي
وتحملوني وأنا نايم
تساورها أيضا أغنية "إشي زاكي" حيث يتأفف فيها الطفل من المنع، ولكن هذه المرة من المنع من تناول السكريات، حفاظاً على الأسنان، يقدم الطفل في هذه الأغنية رؤيته الخاصة، ويشرح للأهل رغبته في أن يصاحب السوسة التي ستسكن أسنانه ويتسلى معها، هذه المساحة التي يتيحها كيال للطفل لتقديم وجهة نظره، يمكن نقضها بسهولة أيضاً، وهذه ميزة إضافية، تجعل من تأثير الأغنية السلبي على فكر الطفل بسيطاً ويمكن معالجته، بل تتيح مساحة لشرح مخاطر التسوس، إن قال أحد الأطفال لأمه أو أبيه إنه يريد أن تتسوس أسنانه مقابل أن يأكل الشوكولاته، هذه المساحات الجميلة التي يشقها الألبوم، تمنحه سمات تنويرية إلى جانب تلك الترفيهية.
كل مرّة بطلب سكّر
بتزعل الماما منّي
بتخوّفني قال بالليل
سوسة بتيجي ع سِنّي
*****
بلكي أنا هيك بحب
سوسة تسكن بأسناني
نصير صحاب ووقت النوم
تغنّي بأحلامي غناني
أما أغنية "أمنية" فتقدم طرحاً أكثر جدية، من خلال سرد أمنيات على لسان الطفل، منها ما يقدم شكاية للعائلة وللمجتمع، وما يقدم شكاية على النظام الاقتصادي العالمي أيضاً، الذي أوجب عمل الأم للتغلب على المصاعب المعيشية:
بتمنّى إبن صفي
يجي معنا ع الرحلة
ويا ريت نربي كلب
بتمنى البابا يسمحلي
بتمنّى بنت جيراننا
تصير شاطرة بالحساب
بتمنّى لمّا أكبر
أصير أقدر أقرا كتاب
بتمنّى إنه الماما
تبطّل تروّح تعبانة
وتقعد تلعب معي
أو تقعد تسمع غناني
وقد تفوق كيال حتى على هذه الأغنيات بأغنية "قصص مش للنوم":
خلي ليلى الحمرا تتجوّز الشاطر حسن
وسندريلا تلبس بوط وتصير تنتبه للزمن
بتمنى إلزا وآنا يروحوا يصيّفوا ع الشط
وسيمبا يترك شغل الملك وينزل يلعب مع البط
سمعت كفاي قبل النوم
قصص بحكوها للصغار
بدّي تحكولي عن العالم
وشو بقولوا بالأخبار
في هذه الأغنية ثمة احتجاج فكري، غايته المطالبة بالتعامل على قدر أكبر من المسؤولية مع الطفل، الانتباه إلى ضرورة تثقيفه إلى جانب قصص الأنمي، وقصص التراث الشعبي وغيرها، نجد فيها أيضاً لفتاً لانتباه الأهل إلى أهمية الاستثمار في أدوات الطفل الثقافية ولغته لتوسيع معرفته، وعدم إهمال تساؤلاته عن العالم وما يدور فيه، فالنباهة لأمر كهذا من شأنها أن تنتج جيلاً أكثر حكمة وحماساً وأكبر معرفة.
ولم يتردد الثنائي كيال – سليمان بخوض معركة مع المجتمع من خلال أغنية "سايقة بوسكليت" التي تؤديها حلا قسيس، ففي مجتمعاتنا تعتبر الدراجة الهوائية حكراً على الأولاد، فمن جهة يمنع الأهل البنت من ركوبها لارتباطها بالشارع المخصص للعب الأولاد، ويبالغون أحياناً من جهة أخرى في مخاوفهم ليربطوا الركوب على الدراجة بآثار سلبية على البكارة. احتجاج الأغنية على منع البنت من ركوب الدراجة لم يأت مجرداً، بل اقترن بمزايا ركوب الدراجة أيضاً:
سايقة بسوكليت
ماما جبتلي إياه
بعيد ميلادي وتمنّيت
ألفّ العالم معاه
أطلع من البيت
أقعد ألفلف بالحارة
أتطلّع ع الناس بتمرق...
ولا تضع الأغنية أمنية "البوسكليت" على صورة التمرد والمهاجمة، إنما على صورة التوافق، "ماما جابتلي اياه"، وفي ذلك ليونة جميلة تقتضي الانتباه، عوضاً عن التصلب الذي يسميه مجتمعنا وقاحة إذا ورد في خطاب طفلة على وجه التحديد.
اللحن والموسيقى والذائقة
لا تذهب البطولة في الألبوم لصالح الكلمات فقط، إنما أيضاً لصالح اللحن الذي جاء على مستوى غريب ومفاجئ، فإن ألقيت أذنك بحصافة ستجد الألحان قابلة للغناء على كلام للبالغين وقادرة على إحداث ثورة فنية، وإن غضضت السمع عن هذه الميزة ستجدها ألحاناً ملائمة لأذن الطفل، وجذابة ومتماهية مع الكلمات، وهذا سر من أسرار العمل، يثبت دراية بالوقوف على الحد الفاصل بين الفئتين بذكاء وتوازن يحتاجان الكثير من الجهد والمعرفة والمقدرة.
وقد ضلع فرج سليمان بصوغ ألحان هادئة وراقصة في آن، تعبر عن الاحتجاج وعن قصر ذات اليد في آن، وفيها من البراءة ما فيها من البراعة أيضا، وهذا ما انعكس على أداء الطفلين، وثمة جانب من ذكاء سليمان كصانع موسيقى، تجلى في اختيار الآلات، التي اقتصرت على البيانو والترامبيت والكلارنيت والجيتار، إلى جانب الإيقاعات التي تتحرك وفقاً لما تستدعي الأغنية من انفعلات وهواجس، ولم يكتف كحال كثير من ملحني أغنيات الأطفال بالتلحين على مقام العجم بوصفه مقام الحلم والفرح، إنما تجاوز ذلك لاستخدام مقامات أكثر غموضاً مثل الكرد، والنهاوند، واستخدم ألحاناً ذات ركوزات مختلفة تبدأ بالكرد وتنتهي بالعجم مثلاً. وفي ذلك إعلاء لشأن ذائقة الطفل الموسيقية، واحترام لافت.
الأداء الطبيعي
قام بأداء الأغنيات كل من فهيم أبو حلو الذي عمل على معظم أغنيات الألبوم، وحلا قسيس التي قدمت أغنيتين فقط، في أداء فهيم براءة وعفوية محببة، تظهر ما يمكن القول إنه عدم تدخل في أدائه، أو الاكتفاء بإعطاء إشارات لتصحيح مسار الغناء، فلا يزعم أداءُ فهيم الاحتراف، إنما يتناهى إلى الأذن على نحو مريح وطبيعي وغير خادش للموسيقى، بما يمنحه تصريح دخول للقلب من أوسع الأبواب، وهي الرقة والبراءة والقوة الناعمة.
أما حلا فموهبة مبشرة وفاتنة، بصوت متمكن وأداء مميز قادر على تقمص الحالة والقول على أساسها، والانسياق معها إلى حد الإقناع برسالة الأغنيتين، لا أخطاء، لا مبالغة، لا تصنّع، إنما براءة ممتزجة بالاحتراف امتزاجاً مدهشاً.
تصنيف الألبوم
والحق أن الألبوم المدهش هذا، يمكن أن يقع ضحية لتصنيفه كألبوم أطفال، فلو قيل إنه للفتيان لكان ذلك في صالحه أكثر، فأسهل على فتى التقاط ما في الألبوم من أطروحات مما هو على طفل يتعلم الكلام، لكن الأهم أنه ألبوم يستحق الاحتفاء لما فيه من إحداث فني وفكري وذوقي.