التصابي التصنيفي: دعوة لعيار الإحداثيات السياسية بين اليمين واليسار (1 - 2)

[لوحة تصوّر محاكمة لويس السادس عشر، المصدر: ويكيميديا] [لوحة تصوّر محاكمة لويس السادس عشر، المصدر: ويكيميديا]

التصابي التصنيفي: دعوة لعيار الإحداثيات السياسية بين اليمين واليسار (1 - 2)

By : محمد عودة

من المبكر التحليل والتنظير في الحركة العسكرية الروسية ضد جارتها أوكرانيا والتي سقطت قبل مئة عام (١٩٢١) في قبضة الاتحاد السوفيتي وما انفكت حتى سقط الاتحاد. من الطبيعي أن يبدي الجميع آراءهم عن هذه المعركة على مواقع التواصل وفي المقالات، آراءٌ تتراوح بين السفاهة في فكاهة عن اللاجئات ومنها ما هو جاد على نحو مبالغ فيه عن أخذ طرف أو وقفة على الحياد، بالإضافة إلى تجلي ملاحظات كأنها حقائق مثل ملاحظة أن من صادَق الغرب فلا صديق له، ولكنه استنتاج عجول بعض الشيء، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بأسلحة نووية لم تواجه أي دولتين نوويتين بعضهما، ولذا تحولت استراتيجيات الحروب في ما يعرف بالحرب الباردة وما يليها إلى حروب بالنيابة في أفلاك النفوذ، وربما لن تكون الحرب في أوكرانيا استثناء لذلك على الرغم من أوروبيتها.

لقد كتبت هذه المقالة قبل ثلاثة أعوام وهي نواة لفكرة نمت منذئذ لتثمر في مسائل تصنيفية، الرابط بينها وبين ما يحصل الآن هو قراءة العديد من التعليقات التي تهاجم "اليسار العربي" أو ما سبقها من وصم كل رأي فيه لمحة من التدين بأنه "إخونجي" أو "داعشي"، وهذا الغصن من المسألة لا يُعنى بالدفاع أو الهجوم على أي اتجاه، بل كان القصد منها طرح سؤال أكثر جذرية والدعوة إلى إجابة راوية، أين اليمين واليسار في بلادنا؟

الرمز والتاريخ

أحد الاختلافات الذي قد يغفل عنها المسافر عبر الدول هي عدم تراضي القوابس من بلده الأصل والمقابس في وجهته، وفقاً للمفوضية الكهروميكانيكية الدولية هناك خمسة عشر نوعاً من القوابس. على الرغم من اتحاد الهدف من ثنائية القابس والمقبس نجد اختلافاً بتصنيعها وعدد الرؤوس المعدنية فيها، لكن هنالك اختلافات بين الدول لا حاجة للسفر كي ندركها، مثل استخدام اتجاهي اليمين واليسار لوصف المواقف التي يتخذها المواطنون بخصوص السياسات الحكومية وقضايا الرأي العام، وكيف تختلف الاتجاهات في الواقع على الرغم من تساوي التسميات.

لم تكن البداية الرمزية سياسيةً بحتة إذ حمل هذان الاتجاهان منذ آلاف السنين، في الإسلام يؤتى أهل الجنة الكتاب بيمينهم وأهل النار بشمالهم (سورة الحاقة آية ١٩ و٢٥) عند الوضوء يجب غسل الأطراف اليمنى أولاً، من السنّة استخدام اليد اليمنى لتناول الطعام. في المسيحية يقضي الرب بين الناس ليصفّهم إلى يمينه وشماله، يثني على من هم إلى يمينه ويعاقب من وضعهم إلى شماله (ماثيو ٢٥: ٣١-٤٦) كما أن قلب الحكيم يرشده إلى اليمين وقلب الجاهل إلى اليسار (إقليزيا ١٠:٢). حتى في سحر الباطنية الغربية هناك اختلاف بين ما يسمى بسبيل اليد اليمنى وهو سبيل السحر الأبيض وسبيل اليد اليسرى وهو السحر الأسود. أما في اليهودية ترتبط اليد اليمنى بالقوة واليسرى بالضعف.

اكتسب الاتجاهان بعدهما السياسي أثناء الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر في المجلس الوطني الفرنسي الذي اجتمع لصياغة الدستور والبت بصلاحيات الملك لويس السادس عشر، حيث وقف الموالون للملك والّذين فضّلوا الحفاظ على سلطته في يمين المجلس بينما وقف الثوريون المعادون للملكية والساعين إلى تقليص صلاحياته إلى يسار المجلس. اختفى هذا الاصطفاف في حكم نابليون بونابارت لكنه عاد لاحقاً وهذه المرة بسابق إصرارٍ وتصميم للإشارة إلى الاتجاهات السياسية لا المكانية فحسب. في منتصف القرن التاسع عشر صُبِغت الاتجاهات بالمواقف المتضادة سياسياً واندرجت تحتها تصنيفات أدق كأقصى اليمين وأقصى اليسار واليمين الوسطي واليسار الوسطي. لو عدنا في الزمن إلى القرن السابع عشر (أي قبل قرنين أو لنقل لويسين) نجد الملك تشارلز الثاني (ابن عم الملك لويس الرابع عشر) يواجه ما يعرف بأزمة الإقصاء والتي فتقت الحزبين السياسيين المعروفين بالويغز والتوريز[1]، لينمو مع مرور الزمن الحزب المحافظ من التوريز والحزب الليبرالي من الويغز. الاتجاهان لم ينتشرا كمؤشرات سياسية مباشرة في الدول المتحدثة بالإنجليزية وإنما حصل ذلك لاحقاً في بدايات القرن العشرين. ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا حمل كِلا المؤشرين قيماً ومعاني تختلف باختلاف المكان والزمان.

إذاً في البداية الفرنسية كان اليمين يشير إلى الوقوف مع التقاليد والملك والمؤسسة الدينية. بينما وقف اليسار مع التغيير والثورة والتحرر. بعد تبني الدول المتحدثة بالإنجليزية ثنائية اليمين واليسار نجد في بريطانيا امتداداً للويغز والتوريز وفي الولايات المتحدة إشارة اليمين إلى المحافظين والحزب الجمهوري واليسار إلى الليبراليين والحزب الديمقراطي. أحد الأوصاف للفروق الأساسية بين اليمين واليسار هي ثنائية الهرمية مقابل المساواة: اليمين يثمّن أهمية أو طبيعية المفاضلة بين أبناء المجتمع وفق اعتبارات مختلفة بينما يركز اليسار على ضرورة المساواة ولفظ أي نوعٍ من الإقصاء. مع الثورة الصناعية وآثارها من تغيرات اقتصادية حملت الاتجاهات مواقفاً إزاء السياسات الاقتصادية للدولة أيضاً، ليشير اليمين إلى الرأسمالية واليسار إلى الاشتراكية أو الشيوعية عموماً.

لم ولن تتوقف المعتقدات السياسية عن التغيّر في أي لحظة من التاريخ، الحركات الثورية التي كانت تعيد صياغة صلاحيات الملك وصلت لاحقاً لمرحلة التشكيك في مبدأ السلطة ذاتها. مع ظهور وتفشي الليبرالية التي قدّست الحقوق الفردية أصبح التضاد السياسي يدعو لتقليص سطوة الحكومة بالمجمل ممهداً الطريق للأفكار الأناركية الداعية لمحوها كلياً. لم يعد المجتمع فقط ما يحظى بالاهتمام وإنما نال الفرد قسطاً كبيراً منه. تولّدت حركات تحرير المرأة من كتابات ماري وولستونكرافت التي عاصرت وعاينت الثورة الفرنسية ومفاهيم كالمُلكية الفردية مع أبي الليبرالية جون لوك، وأسهب مفكرو الليبرالية مثل جون ستوارت ميل عن الحرية عموماً وعن حرية المرأة.

لو أردنا استخدام اليمين واليسار في العالم العربي علينا أن نسأل المفكرين والأحزاب السياسية العربية عن أي انشطار نتحدث؟ مما ينقلنا لصياغة السؤال التي تجاب بالإيجاب وهي تعتمد على فهم اليمين واليسار كأنهما اقترانان فارغان نحملُ مسؤولية تعبئتهما بالمتغيرات من القيم ووجهات النظر السياسية المحلية.

في يومنا هذا أي في بدايات القرن الحادي والعشرين نجد أن الميول الفردية والهوية تلعب دوراً مركزياً في السياسة والفكر الغربي، التحرر الجنسي أو الهوية العرقية أو الدينية التي تقلصت إلى تفضيل شخصي من الحياة في ظل الأنظمة العلمانية. لذا خلقت النظرة المركبة للمجتمع محوراً آخر لفهم الفروق الأيدولوجية، ففي عام ١٩٦٩ قام الأمريكي الليبرتاري ديفيد نولان وبناءاً على دراسات سابقة بإضافة محورٍ عامودي يتقاطع مع محور إحداثيات اليمين واليسار. المحور الأفقي/السيني في الشكل الناتج يشير إلى الحريات الاقتصادية، كلما اتجهنا نحو اليمين كلما زادت الرغبة بترك الأسواق لتعمل دون تدخل حكومي أو مجتمعي وبحرية شركاتية وعلى يسار المحور نجد الاقتصاد المخطط بشكل مركزي أي تحت سيطرة تامة للحكومة. المحور العامودي/الصادي يشير إلى المسائل الاجتماعية أي الحريات الفردية ودرجة التدخل الحكومي فيها. في رسم نولان كانت السلطوية في أسفل الرسم والفردانية أعلاه، أي كلما اتجهنا للأعلى كلما قلّ التدخل الحكومي (زادت قيمة الحرية) في المسائل الاجتماعية والشؤون الشخصية للمواطنين. لاحقاً تم إنشاء موقع البوصلة السياسية والذي يعتمد على رسم نولان ورسمِ يشبهه من جيري بورنيل، يقدم للزائرين امتحاناً قصيراً ليساعدهم على تحديد موقعهم على الإحداثيات السياسية الاقتصادية والاجتماعية ويضع الأحزاب في العديد من الدول على المخطط، الترتيب الديكارتي بهذا الشكل دخل بعض الكتب السياسية وأشادت الكثير من المواقع بموقع البوصلة السياسية[2].

الحاضر المحلي

لنعد الآن إلى واقعنا في الهلال الخصيب ولنسأل أنفسنا عن إمكانية استخدام هذا القابس الغربي مع المقبس العربي. للوهلة الأولى يبدو أن الاتجاهان قادران على وصف الساحة السياسية في العالم العربي. المحافظون هم اليمنيون والمتحررون هم اليساريون. لكن هذه النظرة في رأيي اختزال للاتجاهات وتناسي الزمان (مرور فترة ليست بيسيرة منذ انطلاق هذه الصيغة الثنائية في فهم السياسة) والمكان (مما يحتم اختلاف المناخ السياسي والفكري). على سبيل المثال، المحافظ الأمريكي في يومنا ليبرالي مسبقاً لتقبله المساواة بين الأعراق أو المثلية الجنسية. أما مكانياً، الأمريكي برفضه للملَكية ووضعه للدستور فوق الإنجيل يختلف عن الأوروبي الذي ما زال يملك ممالك (وإن كانت دستورية) وتاريخ الأخير مجبولٌ بالمسيحية لا بالعلمانية مثل الأمريكي. الشيوعية (اليسارية) والفاشية (اليمينية) كانتا عدوتان أيدولوجيتان للولايات المتحدة ولبعضهن في الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، وحتى الآن نجد مصطلحات مثل إزالة النازية في تصريح الرئيس بوتين عن غزو أوكرانيا. لذا علينا التفكير مليّاً بكيفية استخدامهم في فهم محيطنا مع إدراك التلميحات التي تحملها هذه المصطلحات لأنها بالاستخدام المتخبط الحالي تترك البعض يستغربون ما لا غرابة فيه، مثلاً عندما يظن أحدهم بأن اليساري ملزم بالوقوف ضد الحكومة.

السؤال هنا هو هل ينفع استخدام مصطلحي اليمين واليسار لوصف الإحداثيات السياسية في العالم العربي؟

الإجابة المتحذلقة دائماً تأتي بصيغة نعم ولا. وهي ليست إجابة فهي تعيد صياغة السؤال بطريقتين كي نصل إلى الإجابتين المتعاكستين. الإجابة الأولى بالنفي تتم بصياغة السؤال على الشكل الآتي: هل ينفع استخدام المصطلحات "كما هي"، والإجابة لا لأن مفهومي اليمين واليسار كما لاحظنا يتولدان من انشطار فكري وتضاد سياسي، مثل الثورة في فرنسا وأزمة الإقصاء في بريطانيا. ودون الحاجة لدراسة تاريخ الأزمة في كل دولة نستطيع الوصول للنتيجة منطقياً من تعريف اليمين واليسار، هما ببساطة اتجاهان متعاكسان. لذلك من المهم أن ندرك أن القيمة السياسية والفكرية تسبق الصيغة الاتجاهية، الوقوف مع صلاحيات أكثر أو أقل للملك لويس السادس عشر تسبق الوقوف إلى اليمين واليسار. لو أردنا استخدام اليمين واليسار في العالم العربي علينا أن نسأل المفكرين والأحزاب السياسية العربية عن أي انشطار نتحدث؟ مما ينقلنا لصياغة السؤال التي تجاب بالإيجاب وهي تعتمد على فهم اليمين واليسار كأنهما اقترانان فارغان نحملُ مسؤولية تعبئتهما بالمتغيرات من القيم ووجهات النظر السياسية المحلية.

إلى يمين وإلى يسار ماذا؟

وبما أن نقطة البدء هي في انشطار الآراء، تتوالى الأسئلة على سبيل الذكر لا الحصر كي نملأ الاقتران، هل نتحدث عن الموقف من الثورة العربية الكبرى أم من ثورات الربيع العربي؟ هل نتحدث في إطار الحدود التي رسمها سايكس وبيكو، أي هل يحمل اليمين واليسار نفس المعنى في جميع الدول العربية أم يتباين المعنى من رقعة لأخرى؟ هل نتحدث عن معركتنا مع الكيان الصهيوني أم المعارك بين دول عربية؟ ماذا عن دول الجوار، الأزمة بين السعودية وإيران، بين تركيا وسوريا؟ عند كل مفصلٍ تاريخي نجد اختلافاً في الآراء وتأتي سلاسة الصيغة الثنائية من يمين ويسار للتعبير عن الاتجاهات المتقابلة، السلاسة ليست دائمة فقد يختلف الغربيون حول مدى يمينية ويسارية الحزب أو الشخص لكنها ما تزال أداة تصنيفية ممتازة عند فهم العقائد المختلفة. لسوء الحظ يسرع الكثيرون من مفكرينا في المقابل بإسقاطات مفكرين ومحللين من ثقافات أخرى وفهمهم لما يحصل في دولهم وثقافاتهم على ما يحصل هنا، متجاهلين بذلك التعقيد الثقافي والتاريخي في المشهد السياسي هنا. مثلاً تُوصَف الحركات الإسلامية بحركات فاشية إسلامية، المصطلح تم سكّه في الهند عندما انتقد أخطر حسين محمد إقبال، لاحقاً انتقل إلى الأوساط الغربية ومنه على ما يبدو للمفكرين العرب. كلمة الفاشية والمستخدمة بشكلٍ مفرط في الأوساط الغربية غريبة علينا وتستخدم كأنها مرادفة للديكتاتورية دون توضيح الحاجة لاستخدامها بدل الديكتاتورية، ومفهوم الأحزاب والحركات الإسلامية بحد ذاته معقد ويتطلب لتفصيلٍ قبل أن نحكم عليها بعدسة أيدولوجيات جاءت بعد ألفية من قيام الخلافة الإسلامية.

هل نستطيع وصف التيارات الإسلامية بصيغة ثنائية يمينية ويسارية؟ من هم اليمينيون واليساريون بين السنة والشيعة؟ الشيعة يؤمنون بشرعية وراثية لآل البيت وعصمة مما يوازي وجهة النظر اليمينية التفاضلية لكنهم كأقلية أميل إلى تقبل الأقليات ويأخذ اضطهاد الأغلبية حيزاً واسعاً من وعيهم كما يفعل في وعي اليسار الغربي. هل يصح أصلاً استخدام تصنيف علماني لشرح فروقٍ دينية كهذه؟ أم يمكن اعتبار كل البدائل الغربية يسارية مقابل إحداثيات إسلامية تساويها في التعقيد مما يتيح لنا مجالاً أوسع من الأفكار للانتقاء منها؟

نجد في العالم العربي ممالك وإمارات تزدهر بالتزامن مع تساقط الجمهوريات. وهي ليست صدفة أن اليمين واليسار انبثقا من ثورة مهدت لسقوط المَلَكية، لأن وجود الملك بالمعنى التقليدي لا الدستوري يُحتّم انعدام التعددية السياسية. مع هذا الفارق الصارخ كيف لنا أن نستخدم الاتجاهات في سياقاتنا وهل الممالك سواء؟ هل يصح وصف الملك سلمان بأنه يساري بسبب إصدار قانون يسمح للنسوة بقيادة السيارات؟ هل هناك حاجة لوجود الأحزاب كي ندرك الاتجاهات أم هل يمكن العمل بالتوازي بين فهم أبعاد الواقع السياسي لرسم الاتجاهات وبين ملئها؟ هنا ألاحظ تنصل المفكرين من واجبهم التحليلي ويكتفون بهجاء عدم التعددية الحزبية بدلاً من توضيح الطريق إليها أو لماذا علينا التسليم بضرورتها.

وماذا عن الحركات القومية العربية التي نجدها من جانب وقفت ضد الممالك "الرجعية" ومن جانب آخر قمعت الأحزاب الشيوعية، أين تقع الناصرية ويقع حزب البعث؟ العلمانية والاشتراكية تضعهم على اليسار بينما تضعهم السلطوية وقمع التعددية على اليمين[3]. هل يصح القول بأن الحركات القومية العربية هي حركات وسطية؟ من الضروري في التعاطي التحليلي مع كل الحركات أن نميّز بين الادعاء الأيديولوجي وبين التطبيق العملي.

قد يتطلب التعقيد رسوماً وأبعاداً أكثر تفصيلاً لفهم العقائد المتنافسة في نفوس العوام. هل يمكن للبوصلة السياسية ثنائية المحور أن تصبح ثلاثية الأبعاد بإضافة محور ديني/علماني؟ وأين تقع جماعة كالإخوان المسلمين في هذا التصنيف؟ فهي إسلامية وديمقراطية في الوقت ذاته. وربما من الممكن أن نحذف أبعاداً لا أن نضيف فقط، على سبيل المثال لا يبدو أن الأناركية والليبرتارية لها أي ممثل محلي[4].

قد تتراكم الأسئلة النظرية المعاصرة للإجابة عن منطق الاتجاهات لتسأل أسئلة محرجة عن فراغات فكرية، هل يقدم أي من التيارات السياسية العربية والدينية أطروحات تعالج المشاكل الاقتصادية المعاصرة وبطش البنوك الدولية بالشعوب كي نتمكن من تصنيفها بطريقة مختلفة عن الغربية؟ الإسلاميون يكتفون بإجابة عامة مثل "النظام الاقتصادي الإسلامي" دون أن يذكروا كيف يساعدنا على التخلص من القيود الربوية الدولية بطريقة واقعية، ويكتفي اليساريون بتكرار نظرة ماركسية عفى عليها الزمن فيها ذم مستحق للرأسمالية مع تباكي دون بديل نافع. مما قد يعني أنهما ليسا قادرين على إجابة المشكلة إجابة شافية.

هذه الأسئلة التي تنبع من محاولة فهم الاتجاهات تستحق إجابات حتى لو لم نكن بحاجة إلى التصنيف. على أي تيار ذو قيمة أو مفكر ذو وزن أن يتعاطى مع العديد من الأحداث المعاصرة والتاريخية والأسئلة من شتى المجالات بمنهجية واضحة وهذا مستحيل مع التقاعس التحليلي والتلون التصنيفي. ولعل المعضلة الحقيقية التي يكون الفشل التصنيفي عرضاً من أعراضها هي غياب الفلسفة بالمعنى الكامل للكلمة، وانعدام المنهجية في التحليل وفهم العالم، كل العالم لا سياساته واقتصاده فحسب، فهمه بصورة متكاملة تحترم تعقيده بدلاً من اكتفاء المفكرين بأي فتات فكري يجيب المسائل الشائكة على حدة والارتكاز على الأهواء وجمع ما لا يصح جمعه والخوف مما قد يفضي إليه النظر بعمقٍ إلى معضلاتنا الدموية.

الهوامش:

[1]: يجدر بالذكر أن المصطلحات كانت تستخدم للإساءة للأحزاب المقابلة، الويغز تعني سارقي الأحصنة والخروج عن القانون والتوريز تعني البابوي الخارج عن القانون، هذه المعلومة قد تفيدنا لاحقاً لفهم إحدى فوائد استخدام اليمين و اليسار كما نجدها حاضرة بما يخص الحرب الروسية الأوكرانية.

[2]: على الرغم من جودته في تحليل الأبعاد السياسية الغربية إلا أنني وجدته قاصراً في فهم الواقع العربي وكان هذا أحد أسباب كتابة المقال.

[3]: لاحظ أن البوصلة السياسية تستطيع الإجابة بشكل أدق على هذا التساؤل.

[4]: وهذا بحد ذاته قد يفتح المجال لمفكرين يملؤون هذا الفراغ أو نعترف بانعدام الميول السياسية الفردية، مما يفتح المجال للتحليل بشكل عام، وبذلك لا داعي لأن يستغرب البعض من سلطوية جميع الأحزاب.


بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬