منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة، وعلى مدن في الضفة الغربية أيضا، عادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة مجددا، وتحولت مع استطالة أمد الحرب إلى حالة عامة تهيمن على الجميع وعلى الميادين كافة، ومن بين هذه الميادين، ميدان الموسيقى والصناعة الغنائية، فكما يحدث دائما، يرتبك الفنانون وصناع الموسيقى العرب إزاء أحداث كهذا، بين تفسير متوقع على خلفيات سياسية، وقيود محتملة على صناع الأعمال المؤيدة لفلسطين على مستوى العالم، وثمة عامل آخر يتحكم في حجم الإنتاج الفني الداعم للقضية الفلسطينية أو سواها في حروب كهذه، وهو عامل الزمن الذي قد تستغرقه صناعة الأغنية، وإمكانية لحاق فرصة ما لإطلاق الأعمال الفنية قبل أن تلم الحرب ألسنتها ودخانها.
لذلك يلجأ فنانون في ظروف كهذه، إلى تجديد أعمال تراثية، مما يحقق الموقف ويوفر الوقت والجهد والمال أحيانا، فعلى سبيل المثال لجأت الفنانة اللبنانية جوليا بطرس، إلى إعادة توزيع "يما مويل الهوى"، ولجأ آخرون إلى إعادة إنتاج أغنيات أثيرة كأغنيات فرقة العاشقين.
ومن بين الأغاني التي وجدت حيزا حيويا في هذه المقتلة، أغنية "ترويدة شمالي"، التي أعيد توزيعها وتسجيلها بأصوات كثيرة، حيث بدأ الأمر بأصوات مستجدة، وانتهى إلى أصوات مكرسة وأسماء كبيرة، وفعاليات رسمية أيضا.
يمكن القول إن الترويدة بمفهومها العام، ضرب من الغناء البطيء، الممتثل لإيقاع يتبع الإلقاء المنغم، الذي يخلق موسيقى خاصة قوامها الشجن والدفق العاطفي العالي، المتأتي من القلق والخوف، وقد شاع هذا النوع في فترة الثلاثينيات، إبان اندلاع الكفاح المسلح الفلسطيني ضد الانتداب البريطاني، وبالتزامن مع قطع الانتداب أشكال الاتصال بين الثوار والأهالي، اخترع الفلسطينيون آلية لتشفير الكلمات، بإضافة أحرف مكررة، كاللام في ترويدة شمالي، لتغريب الكلام أكثر، وإعجاز المحتل عن ترجمته وتفسيره، حيث استخدم الفلسطينيون هذا الغناء، في إرسال الرسائل للثوار، العاطفي منها والسياسي، ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذه الآلية أصبحت نافذة وفاعلة، حتى ضد عقلية القبيلة الفلسطينية في القرى المحافظة، فاستخدمتها النساء للتواصل مع عشاقهن أيضا.
أما ترويدة شمالي، فتقول كلماتها:
"شمالي لالي يا هوالي لديرة شمالي لالي يا رويللووو (شمالي يا هوا الديرة شمالي)..
ع لالي للبواب هولولم تفتح شمالي يا رويللووو (على اللي بوابهم تفتح شمالي)..
وأنا ليليلبعث معليلريح الشمالي لالي يا رويللووو (وأنا الليلة لبعث مع الريح الشمالي)..
ياصليلار ويدور ليللي على لحبيليلابا يا رويللووو (يوصل ويدور على الأحباب)..
وطالالالت الغربة الليللي واشتقنا ليللي للهم يا رويللووو (وطالت الغربة واشتقنا لهم)..
يا طيرلرش روح للي للحباب واصلللهم يا رويللووو (يا طير روح للأحباب ووصل لهم).. واصلللهم ودورللي على ناسلللهم يا رويللووو (وصلهم ودورلي على ناس لي منهم)..
وسلللملي على اللي للمحبوب ميلللهم يا رويللووو (وسلم لي على المحبوب وميل عليهم).. وسللرب لا تخيللرب يا معللراس يا رويللووو (وسرب ولا تخرب يا عالي الراس)..
وإن سللريبت رولولح مع السللامي يا رويللووو (وإن سربت روح مع السلامة)".
ومن بين من أعادوا إنتاج هذه الأغنية بالتزامن مع أحداث السابع من أكتوبر وما تلاها، فنانة شابة اسمها أميمة، وفنانة شابة أخرى اسمها دانة صلاح، كما افتتحت بطولة كأس آسيا في الدوحة في قطر، بفعالية فنية كانت هذه الأغنية غُرّتها، وبالطريقة ذاتها أعادت الفنانة السورية أصالة نصري استخدام الأغنية في مقدمة أغنيتها "أصحاب الأرض"، واستخدمت مقاطعها كلازمة متكررة أيضا في مفاصل العمل الجديد.
ولكن من الذي نفض الغبار عن هذه الترويدة وأعادها أولا إلى المكتبة الموسيقية العربية بشكل معلوم الملامح، وواضح القوام؟
عام 2014 أطلقت فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية ألبوما موسيقيا اشتمل على مجموعة قطع غنائية تراثية، بهدف استثمارها في عروض الدبكة والرقص الفولكلوري، في إطار المحافظة على الفولكلور الفلسطيني، وإعادة إنتاجه وترويجه عبر عروض تتنقل من دولة إلى أخرى، وقد أنفقت الفرقة جهدا بحثيا كبيرا على ما يبدو، لإعادة استخراج هذه القطع على نحو منوع، يشمل معظم ألوان الغناء الفلسطيني، وربما الشامي بأسره.
وقد أوكلت الفرقة مهمة الإنتاج الموسيقي لألبومين من هذه الأغنيات إلى المؤلف الموسيقي الأردني طارق الناصر، ومن يعرف الناصر يعرف أنه صاحب صولة واسعة في الموسيقى التصويرية، بدأت في مسلسل نهاية رجل شجاع، واستمرت لتشمل الجوارح والكواسر، ثم ملوك الطوائف والملك فاروق، ولم تتوقف بعد، فضلا عن تجربة فريدة تمثلت بتأسيس فرقة رم.
وقد سخر الناصر خبرته في التصوير الموسيقي لإنتاج موسيقى مكافئة لأغنيات ما تزال عالقة في أذهان الكبار، فاستنتج على ما يبدو الموسيقى استنتاجا، بدراية مدهشة، فجاءت أغنيات فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية بصورة جديدة لا تجرح صورتها التاريخية، وهذا الجهد لا يمكن أن يفضي إلى نجاح سوى بالبحث العميق، والإصغاء الحسي الفريد، الذي يترك مهمة استعادة الموسيقى لصدى الماضي، إلا أن المهمة الأصعب تبقى في تدوين وتوزيع هذا الصدى المستعاد، وهو ما يحتاج عقلا موسيقيا متقدا، ومن بين هذه الأغنيات ترويدة شمالي، التي خضعت لنقاشات طويلة قبل اختيارها، فأصر الناصر على إدراجها وترددت الفرقة في البداية لكونها لا تخدم عرض الدبكة، لكنها اقتنعت في النهاية لأهمية ظهور هذا اللون في عروضها.
بذلك يمكن القول إن الحق الموسيقي - المعنوي على الأقل - في هذه الأغنية يعود إلى طارق الناصر، حيث لم تُسجَّل موسيقى قبلا لهذه الأغنية، وما حفظ منها في الذاكرة حفظ غناءً صوتيا منظما على إيقاع سماعي، ومع ذلك لم يُشر أي من مستخدميها لطارق الناصر كصانع للموسيقى، باستثناء فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية صاحبة المشروع.
وخلال استضافتي لطارق الناصر في برنامج الموعد على قناة المملكة، ولدى تطرقنا للحديث عن هذه الأغنية، سجل الناصر احتجاجا أشبه بالعتب على أصالة نصري بالتحديد، لأنها ذكرت في نهاية العمل جميع الجهات التي استلفت منها مقاطع، مثل "ريت المركب" لفرقة العاشقين، باستثناء طارق الناصر وفرقة الفنون الشعبية الفلسطينية، ويرى الناصر أنه كان من الضروري الإشارة إلى الفرقة على الأقل، التي تحتضن في متنها اسم "فلسطين"، التي قدمت أصالة العمل من أجلها، في وقت اعتنت فيه بكل التفاصيل بما فيها ترجمة الأغنية إلى العبرية.
إلا أنه يورد في حديثه غبطة تجاه نجاح هذا العمل، حتى ولو لم يأت أحد على ذكر اسمه، لأنه شعر بقيمة المشاركة في الصالح الفلسطيني، ضمن ما يجري من أحداث.