[هذا جزء من تحقيق موسّع أُجري في دمشق حول اليسار السوري من خلال استبيان آراء بعض الشبان من الجيل الجديد. لا تُعد الأجوبة تمثيلية، بل تعكس آراء عينة محددة، تلقي الضوء، جزئيًّا، على التصور السائد حول اليسار بين الطلاب الجامعيين في سوريا].
"لا أعلم شيئًا عن اليسار. هذا الموضوع لا يهمني. أعتذر عن الإجابة. ماذا تقصد باليسار؟ هل تعني الحزب الشيوعي؟ اليسار مصطلحٌ مجهولٌ بالنسبة لي. هل ما زال هناك وجود لليسار لأتحدث عنه؟". تلك هي بعض إجابات الشبان، الذين فضّل بعضهم عدم الخوض في الحديث عن واقع اليسار السوري اليوم، والتي توضح، إلى جانب الآراء المختلفة التي يتضمنها هذا التحقيق، حجم الأزمة المؤلمة التي بات يعيشها اليسار السوري الغارق في سباته والذي على ما يبدو بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة في انتظار موته الوشيك.
هل يشكل اليسار حضورًا ملموسًا؟
"ننظر اليوم إلى اليسار السوري بوصفه تراثًا قدّمته بعض التجارب النضالية ليساريي مرحلة الثمانينيات كأعضاء حزب العمل والحزب الشيوعي (المكتب السياسي) والذين دفعوا ثمن آرائهم ومواقفهم سنوات طويلة في السجون. ورغم أهمية تلك التجارب، التي جاءت في مرحلة كان فيها لليسار مشروع وطني وحضور منظم وفاعل في الشارع السوري، إلا أنها لم تحدث فارقًا نوعيًّا ومؤثرًا في الحياة السياسية وذلك نتيجة ظروف القمع والاعتقال". هكذا ينظر طالب الهندسة المعمارية علاء (25 عامًا) إلى تجربة اليسار في سورية، مضيفًا: "وإذا ما قارنا يسار اليوم بيسار تلك المرحلة فسنجده يفتقر لهويةٍ وطنيةٍ واضحةٍ نتيجة لعجزه عن بلورة برنامجٍ سياسيٍ ناجعٍ أو صياغة خطابٍ وطني جامع، إذ يقتصر حضوره على بعض التجمعات والمنتديات، التي حادت عن الإيديولوجيات الحقيقية لفكر اليسار لتنحصر ممارساتها في التنظير وإقامة بعض الاجتماعات والندوات، التي لم تطرح سوى شعاراتٍ ونقاشاتٍ معلّبة تغيب عنها أي آلية عملٍ واضحة يمكنها أن تقارب الواقع وتلامس تطلعات الشعب".
تتقاطع طالبة الطب رشا (26 عامًا) مع وجهة النظر السابقة إذ تقول: "لكي يكون لليسار حضور يجب أن تكون لديه رؤية ومشروع وطني واضح، فهناك جيل كامل من الشباب لا يعرف شيئًا عن اليسار، الذي كان، حتى قبل عام 2011، مهمشًا ومشلول الحركة والصوت، ثم بدأت الاضطرابات والانقسامات تتفاقم في صفوفه، فلم يعد جسمًا أو كتلة واحدة تُجمع على هدفٍ واحدٍ أو رؤية مشتركة، وإنما أصبح مجرد جماعات متفرقة تحكمها الشللية، فحاد بذلك عن دوره التاريخي، بأن يكون في طليعة المنخرطين في الحراك الشعبي. وبالرغم من أنه مُنح فرصة ذهبية كان من شأنها أن تعيد ثقة الناس به، إلا أنه خذل من آمن به وعجِز عن مواكبة الشارع الذي تفوق عليه ووجه له الانتقادات من كل حدبٍ وصوب".
من جهته يرى خريج كلية الهندسة المدنية لؤي (26 عامًا) أن اليسار اليوم "لم تعد له قاعدة شعبية واسعة، وينحصر انتشاره في دوائر ضيقة". ويشرح سبب ذلك بقوله: "خلال الحرب ظهرت الكثير من التيارات الدينية والمدنية التي حققت حضورًا ميدانيًّا فاعلًا ومؤثرًا طغى على حضور اليسار، فاستطاعت جذب الكثير من جيل الشباب إلى صفوفها على حساب اليسار الذي نأى بنفسه عن الساحة السياسية". ويضيف لؤي، ذو الميول اليسارية: "لا تنحصر مشكلة اليسار في غيابه فقط، بل في كونه قد أصبح مُلتبسًا، إذ مالت بعض أحزابه نحو اليمين نتيجة وقوفها إلى جانب السلطة الحاكمة في سعيها ليكون لها تمثيل في الحكومة التي لطالما انتقدت سياساتها أو نتيجة تحالفها مع أحزابٍ رجعيةٍ ودينيةٍ كحزب الإخوان المسلمين. إلى جانب ذلك هناك قوى يسارية تبنت الفكر البراغماتي، وهي تلهث لنيل مصالحها الخاصة، فقدمت الكثير من التنازلات المذلة، فيما تحولت قوى أخرى إلى النهج الليبرالي بعد أن أصبحت معظم قياداتها خارج سورية، حيث تحكمها الأجندات الدولية والمال السياسي".
اليسار.. هل يمثل الشباب ويعبر عن تطلعاتهم؟
رغم أن طالب الطب حازم (26 عامًا) يعتبر نفسه يساريًّا إلا أن اليسار الحالي لا يُمثِّله ولا يُعبِّر عن تطلعاته، إذ يقول: "أميل لليسار فقط لأنني أرفض، بل لا أستطيع، أن أكون يمينيًّا. أتبنى بعض المفاهيم والأفكار الفلسفية والثقافية التي قدمتها بعض المرجعيات اليسارية أمثال سلامة كيلة، وصادق جلال العظم، ومحمد الماغوط، وممدوح عدوان. تلك المرجعيات هي القيمة الوحيدة التي قدمها اليسار والتي أشعر أنها تمثلني على نحو ما". ويضيف حازم: "اليوم لم يعد هناك أي مرجعياتٍ يُحتذى بها أو يمكن أن تكون بوصلة لجيل الشباب، فمعظم يساريي اليوم لا يمتلكون سوى الشعارات والخطابات المحنطة التي لا تقدم أي فكرٍ أو ثقافةٍ أو فهمٍ سياسيٍ معاصر، فيما يقتصر عملهم على كتابة المقالات السياسية التي تستنسخ نفسها، وعلى النقاشات الكيدية ونشر بعض الآراء السياسية المملة والمستهلكة على مواقع التواصل الاجتماعي".
وفي السياق ذاته تتساءل طالبة الهندسة المعمارية سلمى (25 عامًا): "كيف يمكن ليسار أجهل أدبياته وأيديولوجياته وأهدافه أن يمثلني؟"، مضيفة: "ببساطة أنا من بحثت عن اليسار وليس هو من جذبني إليه، ورغم ذلك لم أجد لديه أي منبر يُعبِر عن تطلعاتي، لذا كنت ألتقي ببعض اليساريين القدماء وأحاول أن أنهل من أفكارهم وأتعلم من تجاربهم".
وتلخّص سلمى علاقتها باليسار: "يمكنني القول إن لدي ميولًا يسارية تنحصر في تبني بعض الأفكار الماركسية والاشتراكية والثورية المتعلقة بالحرية والعدالة ومقاومة الظلم والاستبداد، لكنها اليوم لا تجد سبيلًا إلى تحقيقها على أرض الواقع، خاصة في بلدٍ مثل سوريا، بعد أن أُفرغت من مضامينها وأصبحت مجرد كليشيهات فارغة".
اليسار وجذب الشباب
وإذا كان اليسار في مرحلة السبعينيات والثمانينيات قد استطاع استقطاب الكثير من الشباب الحالمين بالحرية والتغيير إلى صفوفه، فهل يسار اليوم استطاع أو يستطيع أن يحقق ذلك؟ يجيبنا طالب الفنون الجميلة ربيع (24 عامًا) عن هذا السؤال قائلًا: "اليسار الحالي لم يقدم لي أي نموذجٍ ناجح أو ملفت من شأنه أن يجذبني إلى صفوفه، فهو قد استنسخ التجارب والمنهجية والذهنية المتحجرة ذاتها للأحزاب اليسارية الكلاسيكية المتمثلة بالحزب الشيوعي وما انبثق عنه، دون تبني أي روح أو لغة جديدة تراعي متطلبات العصر الحديث". وعن تجربته الخاصة يقول: "حاول بعض اليساريين، وهو عضو سابق في حزب العمل، جذبي مع بعض الأصدقاء إلى أحد تيارات اليسار، وذلك من خلال بعض حلقات القراءة والجلسات النقاشية حول بعض القضايا الوطنية والفكرية، لكن ذلك لم يكن محفزًا كافيًا أو دافعًا قويًّا لكي أنتمي إلى ذلك التيار، الذي لم يقدم لي فهمًا واضحًا عن الممارسات الفعلية والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها".
تجربة أخرى يحدثنا عنها الناشط المدني سومر (28 عامًا): "خلال الحرب سعيت أنا وبعض الأصدقاء لنكون جزءًا من اليسار السوري، لكننا لم نجد من يصغي لصوتنا وتطلعاتنا لكي يحتضننا ويوجهنا، إذ كان واضحًا حجم القطيعة الكبيرة بين جيل اليسار القديم وجيل الشباب، فهم يروننا أشخاصًا عديمي الفائدة وغير فاعلين، لذا لم يعيروا أفكارنا أي اهتمام، وكانوا يتعاملون معنا بفوقية ووصاية".
ويُلاحظ اليوم أن بعض الشبان، الذين يعتبرون أنفسهم يساريين، لم يتبنوا أفكار اليسار عن قناعة جوهرية راسخة وإنما لجؤوا إلى ذلك "كنوع من الخروج عن المألوف والسائد أو لملء الفراغ الاجتماعي والثقافي والإيديولوجي الذي يعيشونه، ولكي يشعروا بأنهم فاعلين ولهم رأي ودور سياسي ما، وليسوا مجرد شبان مهمشين ومسلوبي الصوت والإرادة". هكذا يصف سومر حال بعض أصدقائه الذين يصغرونه ببعض السنوات.
وعن مدى استقطاب اليسار للشباب يقول: "معظم الشباب الذين يحملون أفكار اليسار اليوم قد ولدوا في عائلات ذات توجه يساري أو لها علاقة بالعمل السياسي على نحو ما، ما يعني أن الأفكار والتقاليد اليسارية قد أصبحت تنتقل فقط بالوراثة وتنحصر ضمن مجموعات ضيقة أو حتى مغلقة، فأنا يساري فقط لأنني ولدت لأبوين يساريين".
"اليسار والمرأة كامرأة؟"، تقول طالبة الصيدلة سوسن (25 عامًا): "لا يوجد أي حزب يساري تطرّق لحقوق المرأة أو عبَّر عن تطلعاتها عبر أدبياته وممارساته، وإنما اقتصر الأمر على الدعم النظري دون تبني أو تطبيق واضح. فاليسار خلط بين حقوق المرأة وعملها النضالي والثوري، وحصر تحررها فقط بعملها السياسي، وكان يأسر قدراتها ومهاراتها ضمن إطار محدد، لا يتعدى حدود نشاطها الحزبي والتنظيمي".
وتضيف سوسن: "هناك أحزاب يسارية تتناقض مع الفكر المدني والعلماني الذي تدعيه، إذ لا يعنيها سوى الفكر الثوري للمرأة فيما تتقبل الكثير من وجهات النظر الدينية والطائفية، أو المتعلقة بالعادات والتقاليد المجتمعية المحافظة والمتخلفة عند بعض النساء المنتميات إلى صفوفها ولا تعير انتباهًا للاضطهاد الذكوري الذي يتعرضن له. وإلى جانب ذلك هناك بعض اليساريين، الذين نظَّروا كثيرًا عن تحرر المرأة، كانوا يعاملون زوجاتهم وبناتهم وفق أعراف المجتمعات المتخلفة، وبالمقابل ينظرون للنساء المتحررات بوصفهن متاحات لإقامة علاقات جسدية معهن في أي وقت. والأمثلة كثيرة عن نساء تعرضن للتحرش من قبل بعض زملائهن في اليسار".
ورغم محاربة اليسار للجهل والتخلف إلا أنه "لم يُنصف المرأة ضمن ممارساته بل كان ينتقص من قيمتها وقدراتها وطاقاتها ويعاملها بنظرة تمييزية تراها أقل مرتبة من الرجل، إذ نادرًا ما رأينا حزبًا يساريًّا منح المرأة موقعًا إداريًّا أو قياديًّا بارزًا وفاعلًا ضمن كوادره، وذلك رغم دخول الكثير من النساء إلى معترك السياسة والنشاط الميداني خلال السنوات الأخيرة بعد انخراطهن في الحراك الشعبي". هكذا تنظر طالبة الترجمة والناشطة النسوية خزامى (26 عامًا) لعلاقة اليسار بالمرأة. وتضيف "لقد تراجع دور اليسار المتعلق بالمرأة على حساب الدور النهضوي النسوي الذي دخل حياتها بشكل مؤثر وناجع، واستطاع جذب الكثير من الشابات نحو المنظمات والجمعيات النسوية التي تزايد عددها في السنوات الأخيرة وباتت اليوم تمثلهن وتعبر عن أحلامهن وتطلعاتهن بشكل أكبر وأكثر تأثيرًا من أحزاب اليسار التي لم يعد لها أي وجود مؤثر يذكر".
اليسار والثقافة
ورغم أن اليسار في مراحل سابقة قد لعب دورًا هامًّا في الحياة الثقافية السورية، "عبر التشجيع على حركة القراءة وإدخال الثقافة وبعض أنواع الفنون اليسارية لكثيرٍ من البيوت، والمساهمة في ولادة نخبة مميزة من الكتاب والمفكرين والمنظرين". إلا أنه اليوم "لا يشكل أي أثرٍ ثقافيٍ ملموس، إذ تراجع دوره ومساهماته في نشر الثقافة ولم يعد لديه ما يُدهش ويُلفت". وذلك بحسب خريج كلية الإعلام أحمد (25 عامًا) الذي يعزو سبب ذلك "إلى التطور التكنولوجي الكبير الذي أتاح الثقافة أمام الجميع، فأصبح الحصول على المعلومة، في شتى المجالات، أمرًا سهلًا لا يحتاج لأي جهد يذكر". ويضيف أحمد: "ينحصر الدور الثقافي لليسار اليوم فقط في التنظير الفلسفي والاجتماعي وفي بعض المنشورات المتعلقة بالفكر السياسي والتاريخي للحركات اليسارية وأفكار بعض مرجعياتها، إذ لم يعد هناك أي ثقافة أو فنون يسارية محضة، فيما تقلص حضور المنابر ذات الهوية اليسارية، فلم يعد هناك صحف أو مواقع يمكن اللجوء إليها لتشكيل معرفة واسعة عن اليسار، وإنما هناك مواقع ذات توجه مختلف، تنشر بعض الدراسات والأبحاث الفكرية والمقالات المتعلقة باليسار".
يحتاج اليسار اليوم إلى الكثير من المراجعات والمحاكمات النقدية والموضوعية وإلى إحداث تغيير جوهري في ممارساته وآلية عمله لكي يتمكن من النهوض مجددًا ومن إعادة تشكيل هويته الوطنية الضائعة، ولكن يبدو أن هذا الأمر قد يحتاج إلى شرط تاريخي وسياسي جديد، وهو أمر قد لا يكون متاحًا في المدى القريب.
[هذه المقالة جزء من طاولة مستديرة خصّصتها جدلية لتناول موضوع اليسار في سوريا].