[هذه المقالة هي الجزء الثاني من مقالة تحت عنوان «التصابي التصنيفي: دعوة لعيار الإحداثيات السياسية بين اليمين واليسار»].
للإجابة على الأسئلة المطروحة علينا أن نتذكر أن إجاباتها في العالم الغربي ارتهنت بثلاثة شروط، أولاً كان التصنيف يحصل كما أسلفنا بعد اتخاذ المواقف المختلفة لا قبلها. ثانياً كان التصنيف يأتي من المفكرين والأحزاب الموجودة محلياً لا استيراداً مُعلّباً. لكن لا داعي للمبالغة في رفض الجدلية بين الأفكار في العالم فالتجارب البشرية فيها ما فيها من تشابه والأفكار فيها ما فيها من تجريد. ثالثاً ضرورة مرور فترة كافية من الحرية الفكرية كي تصاغ الأفكار وتتبلور المعتقدات المتضادة، لو انتفى الشرط الثالث واستمر التعتيم الفكري سياسياً واقتصادياً فلن نُبصر لا يميناً ولا يساراً وإن وجدا.
لنفترض جدلاً أن المفكرين والتيارات السياسية في الدول العربية رتبوا المواقف على إحداثيات يمينية ويسارية. ما هي الفائدة وهل هناك ضرورة لفعل ذلك؟
الفوائد
أسبقية المواقف للاتجاهات يجب ألا تخدعنا لنظن أن التفكير بالصيغة الثنائية عند الجميع يحصل بهذا الترتيب، الفائدة الأولى من الصيغة الثنائية من يمين ويسار هي التسهيل على المواطنين أخذ المواقف من أي قضية بالشكل الآتي: المواطن قد يتبنى وجهة نظر باتجاه قضية معينة ومن ثم يكتشف أن وجهة النظر هذه تنتمي إلى جهة يمينية أو يسارية. بعدها يرى نفسه واقفاً في تلك الجهة وعند حضور قضية مختلفة لا يعلم الكثير عنها، سواء لأنها بعيدة عن تخصصه أو لعدم اكتراثه، فهو قد يستعين بالجهة التي يقف بها ليرسم وجهة النظر الثانية. ويسمح التصنيف للمهتمين في التعمق الممنهج أكثر في الأفكار، لماذا فعلاً اتخذ الموقف الفلاني، من هم المفكرون وما هي الكتب التي يستطيع أن يقرأها لفهم الجذر الفكري أو التسلسل التاريخي للمبدأ الذي اتبعه دون علم.
ولكن المعظم لا يملكون الوقت لذلك، ولهذا تساعد الصيغة الثنائية الأفراد على تبني الآراء السياسية، وتعالج استحالة تفقه الجميع بشتى المسائل السياسية. وكذلك عندما تُعبّر الأحزاب عن مواقفها في صيغة ثنائية أسهل للفهم يستطيع المواطن الاختيار بينها دون الحاجة للتعمق بفهم المبادئ وراء الصيغة مما ينقلنا للفائدة الثانية: تبسيط الرؤى السياسية. بدلاً من الدخول في التفاصيل السياسية المملة يتم تبسيط المسائل وتقريب الحلول المقترحة للعوام. يصبح حينها اختيار الحزب السياسي أو الفكر السياسي أسهل على المواطن، ويجعله أكثر حذراً من إطلاق الأحكام أو -كما ذكرت في الجزء الأول- من الاستغراب مما لا غرابة فيه، وهذا يعني فهماً أفضل لمحيطه.
الفائدة الثالثة تتعلق بإثراء التعبيرات عن الآراء المتباينة وتصعيب الاتهامات التي يتلاقفها السياسيون والتي تستغل المشاعر بدلاً من مخاطبة العقول -أو على أقل تقدير تكوين شتائم تعمل كنواة لتوجهات سياسية كما سبق مع الويغز والتوريز- إذ إن الكثير من الانتقادات في الأوساط السياسية العربية تعتمد على العاطفية مثل وصف حكومات بأنها لا إنسانية، هذه التهمة قد تصح في وصف القرار لكنها تهمة لا تحتمل النقاش السياسي، إذ لا يوجد حزب أو حكومة تضع "اللاإنسانية" كهدف لها مهما حققت هذا الهدف على أرض الواقع، وهي تهمة يمكن قذفها في كِلا الاتجاهين. كما أن الكثيرين على ما يبدو يستسهلون استخدام مصطلح اليمين أو اليسار للذم والإشكالية تقع بأنهم لا يوضحون أين يقفون هم أنفسهم.
مصطلحا اليمين أو اليسار ليسا مشحونان بسلبية -على أقل تقدير عند بداية الاستخدام- ففي آخر المطاف ما اليمين واليسار سوى اتجاهات. واستخدام اتهامات سياسية تحتمل النقاش تجبر الأحزاب والمفكرين على مخافة ربهم والأمانة الفكرية بانتقاداتهم بدلاً من التكاسل واختيار تعبيرات لا تأتي من الأسفل (تعليقات عاطفية) أو من أقاليم جغرافية بعيدة (كالإفراط الشمالي (الغرب وروسيا) في استخدام الشيوعية والفاشية أو الجنوبي الشرقي في وصم كل شيء بالإمبريالية، أو وصم الأحزاب الدينية لكل شيء غربي بأنه غزو أو استعمار دون التوضيح من حيث المبدأ ما هي مشكلتهم مع التوسع العسكري). كلما اقتربنا من مصطلحات تتسم بالحياد أو لا تحشّد بشكل مباشر كلما اتضحت الرؤية، ولو لحين.
الفائدة الرابعة هي انتشال الشباب العربي من دوامة الأيدولوجيات الغربية والشرقية التي تبتعد عن مزاج الشعوب الشرق أوسطية ابتعاداً ينفي احتمالية قبولها، أو على الأقل ينفيه دون تغير جذري دموي. مع العلم بأن هذا الانتشال لا يحتاج بالضرورة إحداثيات يمينية ويسارية لكنه بصورة أعم يحتاج حتماً للأدوات التحليلية لفهم التيارات السياسية في المنطقة وفقاً للغة المنطقة. مع انعدام الأدوات المحلية لفهم الاتجاهات السياسية سنبقى أسرى للتفسيرات والامتحانات السياسية الغربية ونضيع وقتنا بأمورٍ لا تهمنا بقدر ما تهم دولاً تستخدم هذه الأداة (أداة اليمين واليسار، أمورٌ مثل قوانين اقتناء الأسلحة في أمريكا) أو التحليلات الهلامية للمفكرين المتموهين (أن ينظّر مفكر بصفته عربياً مع أن راتبه يأتي من حكومة بعينها وهو متحدث باسمها أكثر من كونه متحدثاً باسم أي أيدولوجيا عربية عابرة للحدود). كما أن فهم كل حيثيات هذه الإحداثيات في سياقها الغربي لنتأكد من صحتها مسألة لطلاب السياسة لكن إعادة ابتكارها في السياق المحلي ضرورية لمصلحة الجميع وبأقصى الضرورة في نظري، والأولَى هو أن نستغل الوقت لنصنع المفاهيم والمقاييس، هنا حيث نحن، كي نثري النقاشات السياسية ونتحكم بمرجعية النقاش، وإلا سنضطر آسفين "لحشر قوابس غربية في مقابسنا العربية".
إلى هنا ينتهي المقال ولكنني لا أود تفويت فرصة إضافة بضع أفكار للرد على تعليقات يمكن توقعها وأخرى تلقيتها.
الردود
قد يقول قائل بأن بعض ما ذكرت يمكن فعله دون الحاجة لترتيب الأحزاب على محور اليمين واليسار -ومحاور إضافية كيفما تقتضي الحاجة- ومع أن ذلك صحيح إلى حد ما إلا أنه يتسم بالتقاعس ويحمل ضرراً أكبر حجماً وهو ضرر الفراغ المتروك بسبب التصابي التصنيفي، أي بسبب عدم وضع الأفكار في مواقعها بالنسبة لبعضها، هو فراغ يسمح للمراوغة بقصد وإلى التناقض بدون قصد عند الكثيرين. عندما أجد محللاً يخلط بين مشيئة الشعوب (منطلق ديمقراطي) ومشيئة إلهية (منطلق ديني) أو عندما يكثر أحدهم الحديث عن ضرورة وحدة العرب (منطلق قومي) وينكر على الدول الأوروبية سياسات ضد المهاجرين (منطلق أممي) وهلم جرّا. هذا الفراغ لم يتركه عدم التصنيف بذاته ولكن الأحداث في العقود الثلاثة الماضية التي وضعت أمام العقائد الكبرى تحديات عصية، وبدلاً من إيجاد حلول متناسقة عقدياً يطير المحلل ويلتقف من كل قطرٍ أغنية وفق الأهواء. الحاجة للتصنيف هنا تجبر الأشخاص على اتخاذ مواقف أوضح من منطلقات واضحة بدلاً من العراك اللحظي عند كل حدث، ويجعل الجدال السياسي أكثر منهجية عند التعاطي مع المنطلقات الواضحة، وهذا الوضوح يساعد المرء أو المفكر ذاته في إعادة التفكير في واقعه وحاضره الذي أنهى صلاحية العديد من الحجج والأفكار. يمكنني القول بأنني أدعو لدراسة الأبعاد السياسية كي أشير إلى الفجوات فيها وبينها.
الرد الآخر وهو رد قد تلقيته يقول بأن "المقال يفترض من البداية أن الواقع السياسي العربي مقسوم بشكل حاد على أساس ثنائية اليسار واليمين" وهذا الزعم لا يصح لأن المقال يذكر التركيز على الواقع وانقساماته وينطلق منها نحو التصنيف وعلاوة على ذلك يذكر احتمالية وجود تصنيفات مختلفة تناسب ما هو موجود.
ويكمل الرد بأن المقال "يركز على نقد هذه الثنائية وتحليل مصادرها، دون إثبات أنها تهيمن على الواقع فعلًا" مجدداً ينسى ما جاء في المقال من الحديث عن ضرورة التصنيف لا تقديم أي نموذج له، كما أن الاتجاهات بصفتها اتجاهات بالطبع تهيمن على المكان وتصف ترتيب محتوياته. وأخيراً قيل إن "هذا الافتراض يختزل الكثير من التفاصيل والفروقات بين التيارات السياسية العربية، ويهمل وجود تنوعات وتقاطعات في العديد من المدارس التي قد تحسب على اليسار أو اليمين" ونرى بسهولة أن الافتراض المفنّد قشي وليس افتراضاً في المقال بل مقحمٌ فيه ولولا أنني تلقيت رداً ضعيفاً كهذا لما توقعت سماعه. اليمين واليسار طرفان متقابلان يطبقان مبدأ التنافي والشمولية[1] خصوصاً مع أخذ البوصلة السياسية بأكملها بعين الاعتبار، والترتيب السياسي يسمح لطيفٍ يصل بينهما، معظم الأحزاب في السلطة هي على أي حال وسطية مقارنة بالمعارضة الجذرية إلى يمينها ويسارها، ولكن ذلك لن يتضح للقارئ للمساحة الغربية السياسية في المقالات الرسمية دون الغوص بما لا ينشر على المواقع الكبرى والصحف العالمية.
وقد قلت حينها مع تصرف إن "الحجة الأساسية هي أن الثنائية مفيدة في العالم الغربي، على الرغم من تطور وتعقيد الحياة السياسية تتمكن هذه الثنائية من توضيح وتبسيط الفروق بين أطياف واسعة من المواقف السياسية عندهم، لذا أرى فائدة في استخدام مثيلٍ لها في العالم العربي كما رأى قبلي ممن كان خارج فرنسا نفعاً من استنساخ الثنائية هذه. في سبيل استخدام مثيل لهذه الثنائية بحثت عن استخداماتها في سياق عربي ولم أجد مقالات مخصصة لرسم الصورة العامة ولذلك كتبت المقال هذا، كدعوة لدراستها موضوعياً وتجريد المواقف: توضيح الانقسام والتقابل في المواقف وانسجامها في صورة أكبر للأيدولوجيات، أي توضيح التقاطعات وإبرازها لا إهمالها كما ذكرتم. أما عن الاختزال، الغرب عندما يختزل تعقيداته بهذه الثنائية يفعل ذلك ليوضحها عبر تبسيطها، كما تختزل الخريطة الأبعاد والتضاريس الحقيقية للعالم."
وأخيراً لو عدنا إلى نقطة البداية من تقسيم اليمين واليسار يمكنني القول إن الانقسام الحاد طبيعي، هي ببساطة ثنائية مع أو ضد، وأي قضية عامة أو حدث مهم يولد هذين الرأيين وبالطبع سيكون بينهما درجات من المزج بكم المع والضد وأسباب مختلفة للوقوف في أي جهة، ولو جمعنا الردود على قضايا متعددة من المع والضد لا بد وأن تظهر أنماط وعناقيد من الأفكار المترابطة.
يمكن أن ينطلق التصنيف من نقطتين ويلتقي، من جهة يمكننا دراسة الواقع وآراء الناس والمفكرين كي نفهم كيف تتجمهر المواقف بالنسبة لبعضها، ومن جهة مقابلة يمكننا البدء بالنظرية والفلسفة -إن وجدت، وإن لم توجد فعلينا أن نخلقها- يمكن أن نفهم لماذا يجب على الفرد أن يكون مع أو ضد أو ما بينهما بخصوص أي قضية. وهذه المبادئ تنفع في التناسق والتنبؤ في المواقف.
التصابي التصنيفي في كل اتجاه
منذ كتابة المقالة توسعت مشكلة التصابي التصنيفي في نظري، وجدتها عند سماع الحديث عن الروايات وأصنافها عند الكتاب والقراء العرب، وفي الأحوال السياسية يوجد خلط جلي بين كل الدول العربية دون العناية بالفروق ويترتب على ذلك أغرب الاستنتاجات والتناقضات، وفي التاريخ أجد في ذهن الأغلبية وأولهم المثقفين قطعاً زمنية كبيرة لا تتمايز فيها الأصناف. عند التدقيق على الجانب التصنيفي باتت تبدو لي الكثير من الأفكار في المقالات والمنشورات عند بعض المفكرين أو أدعياء الفكر بأنها حساء فكري ممتزجةٌ مقاديره، ومع تشخيص مشكلة التصابي التصنيفي وامتزاج غريب للمقدمات لم أعد استغرب من عقم الاستنتاجات ومن ارتجالية التحليلات (ad hoc). ولا أظن أن الحلول الفكرية ستتأتى قبل أن نجرؤ على التخلص من التصابي التصنيفي على كل الأصعدة.
الهوامش:
[1]: مبدأ التنافي والشمولية (MECE principle (mutually exclusive and collectively exhaustive يستخدم لوصف التقسيمات في أكثر من مجال، التنافي يعني أن التقسيم يضع الأحداث أو القضايا المنطقية في فئات حصرية لا يمكن أن ينتمي العنصر لكليهما في الوقت ذاته، في سياقنا يعني ذلك أن اليمين في صورته المجردة واليسار في صورته المجردة ينفيان احتمالية أن يكون الشخص يميني ويساري في آن واحد، لكن الطيف بينهما يعني أنه يميني في أمور معينة ويساري في أخرى. لكن اليمين واليسار يشملان الكثير من القضايا وينطبق هذا المبدأ عليها فرادى. أما مبدأ الشمولية يعني أن أحد الأحداث المشمولة في التقسيم لا بد وأن تحصل، أي أن موقفك من القضية يجب أن يُشمل في التصنيف. إن خرج عن التصنيف فهذا ينفي مبدأ الشمولية. المقالة بجزئيها معنية بتقسيم التوجهات السياسية بطريقة توفي هذا المبدأ ويعني ذلك أن الصورة النهائية ليست محصورة باليمين واليسار، يمكننا نتخيل مكعباً مع المحور الديني أو مثلثاً متساوي الأضلاع لا يكون المتوسط بينهما أقرب من الطرفين من قرب الطرفين لبعضهما.