تعتبر القضايا البيئية في المنطقة العربية من أكثر القضايا إهمالاً رغم تأثيراتها الكبيرة التي تمتد من جودة المعيشة والآثار الصحية إلى الزراعة والغذاء مروراً بالتأثيرات الاقتصادية، ورغم وعينا أن من بين أسباب غياب هذه القضية هو طغيان هموم معيشية مباشرة أشد أثراً على مستوى الحياة اليومية، بالإضافة إلى غياب الممارسة السياسية التي تخرج منتجات معبرة عن المجتمعات في الدول العربية، إلا أن ذلك لا يمنح عذراً لصناع القرار وأصحاب المسؤولية في البلدان العربية للغياب شبه التام للقضايا البيئية عن الأجندة السياسية.
في معظم البلدان العربية، يعتبر ملف البيئة ملفاً هامشياً، ولا يتمتع وزراء البيئة بسلطات حقيقية تسمح بتنفيذ مشاريع أو حتى تقديم رؤى، فباستثناء ستة دول، توكل معظم الدول العربية ملف البيئة إلى وزارات البلديات أو الإدارة المحلية أو المياه، ما يضعف الاهتمام بالملف البيئي، وينزل بقضية البيئة من مستوى الاهتمام بالطاقة النظيفة وتقليل الانبعاثات وغيرها من الأخطار، إلى اختزالها بنظافة الشوارع الرئيسية. وحتى في البلدان العربية التي أنشأت وزارات مختصة بالبيئة، فإن تلك الوزارات لا تتمتع بسلطات حقيقية، حيث يصنف وزير البيئة باعتباره وزيراً من الدرجة الثالثة بعد وزراء السيادة ووزراء الخدمات، ومساوياً في الوزن السياسي لوزراء الدولة (الوزراء بدون حقائب) ولا تمتلك الوزارات في غالب الدول العربية صلاحيات تنفيذية، أو آليات لتطبيق قراراتها، ويقتصر دورها في تقديم المشورة في القضايا البيئية.
رغم ما يظهر من إلحاح للقضايا الأمنية والاقتصادية الأخرى، إلا أن الدول العربية ترتكب خطأ استراتيجياً في إهمالها للقضايا البيئية، وذلك لتأثيرها الكبير في جميع المجالات، فالمنطقة العربية من أكثر المناطق تأثراً بالتغيرات المناخية، ومهددة بحالات طقس متطرفة بدأت تطل برأسها في السنوات العشر الأخيرة. إن التحول المفاجئ للمناخ بشكل قاسٍ سيقود بكل تأكيد إلى اضطرابات اجتماعية وسياسية، وآثار اقتصادية، فالطقس العنيف وغير الاعتيادي مثلاً سيسهم في المزيد من التدمير للبنية التحتية مثل الطرق والجسور، وهذا سيقود إما إلى استنزاف المالية العامة للدول العربية عبر انفاقٍ أكبر وغير متوقع على البنية التحتية الأساسية بما يقلل الإنفاق على المشاريع التنموية والخدمية الأخرى، أو أنه سيقود إلى استياء عام من غياب الصيانة للمرافق الحيوية بما يمثل بدايةً مناسبة للاضطراب السياسي والاجتماعي، ناهيك عن الكلفة الاقتصادية الأخرى المتمثلة في طرد الاستثمارات كنتيجة لتهالك البنى التحتية والكلفة البشرية المتمثلة بازدياد الحوادث المرتبطة بسلامة الطرق والمنشآت. إن السيناريو السابق بأكمله هو واحد فقط من بين التبعات التي سيتسبب بها التغير المناخي، الذي يمتد تأثيره إلى جميع مناحي الحياة، فتأثيره الكبير على وفرة المياه -الشحيحة أصلاً في منطقتنا- وعلى الزراعة، سيقود إلى تهديد الأمن الغذائي في المنطقة العربية، بكل ما يعنيه ذلك من أثر على سلامة السكان وصحتهم، وتحريك للاضطرابات الاجتماعية والسياسية، كذلك تؤثر جودة الهواء على صحة السكان بما يؤدي إلى خيارين: ضرورة إنفاق المزيد على الرعاية الصحية بما يزيد العبء على موازنات الدول بشكل قد يعطل المشروعات التنموية، أو إهمال الإنفاق الصحي بما يفاقم عدد ضحايا التلوث الذي يتسبب بنحو أربعمئة ألف وفاة مبكرة كل عام في منطقة شرق المتوسط.
إن الكلف السياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية والصحية المتوقعة لآثار التغير المناخي على المنطقة العربية كبيرة جداً، وتستدعي اهتماماً خاصاً عبر استراتيجيات وطنية و أخرى إقليمية تتعاون فيها الدول العربية فيما بينها لمواجهة الآثار الناجمة عن التغير المناخي، ويشرف على تنفيذها أجهزة وهيئات ووزارات ذات صلاحيات حقيقية، وإصلاح القوانين والتشريعات المتعلقة بالبيئة بما يمكن الوزارات والهيئات المعنية بالملف البيئي من تنفيذ برامجها، وتقديم مشورات ملزمة عندما يتعلق الأمر بصلاحيات وزارات أخرى يتقاطع عملها مع الملف البيئي. إن التمكين القانوني والسياسي لوزارات البيئة يجب أن يكون في مقدمة أي إصلاح سياسي أو اقتصادي، وذلك لضرورة وجود جهة نافذة وذات قرارات ملزمة تضمن السلامة البيئية للمشاريع الاقتصادية من النواحي الفنية والهندسية، وتشجع المشاريع التي تصب في طريق بناء اقتصاد مستدام، وتعرقل المسارات الاقتصادية التي تهمل البيئة والسلامة العامة في سبيل أرباح آنية.
رغم التجاهل، إلا أن أمام الدول العربية فرص كبيرة لإتمام التحول في الوجهة، من تقديم الملفات الاقتصادية والأمنية وغيرها إلى إعطاء الملف البيئي أولوية على أجندة الحكومات، خصوصاً مع وجود مناسبة مناخية عالمية ستعقد في المنطقة، حيث تستضيف مصر المؤتمر السنوي للأمم المتحدة المعني بتغير المناخ في شرم الشيخ في نوفمبر المقبل، مما يجعل هذا الحدث فرصة للفت انتباه الحكومات العربية لأهمية القضايا البيئية، وضرورة التفكير في وضع التغير المناخي على سلم الأولويات، من أجل العمل على مواجهة آثاره، والتي تشير كل التوقعات إلى أن المنطقة العربية ستعاني منه أكثر من غيرها، خصوصاً مع غياب التخطيط للتعامل مع تبعاته.