ريبيكا سي جونسون
(جامعة كورنيل للنشر، 2020)
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى كتابة هذا الكتاب؟
ريبيكا سي جونسون (ر. ج.): بدأت أفكر في هذا الموضوع منذ سنتي الأولى في الدراسات العليا. كنت قد لاحظت تناقضا في كيفية وصف الباحثين لتاريخ الرواية العربية. في ذلك الوقت، كان من المتوافق عليه عموما أن الرواية ظهرت سنة 1913 مع صدور "زينب" (لمحمد حسين هيكل). ولكن هوامش هؤلاء الباحثين أنفسهم كانت تسجّل باستمرار وجود العديد، بل المئات، من الروايات التي نشرت قبل ذلك التاريخ. هم فقط لم يعدوها روايات عربية، بمعنى أنها ليست "روايات قويمة" أو عربية "أصيلة". كانت تلك الروايات، وعلى عكس الخيال الوطني المتضمن في رواية "زينب"، مترجمة من نصوص أوروبية أو مقتبسة منها؛ كانت تتمحور حول شخصيات وأماكن أجنبية. ووصفت بأنها روايات بدائيّة، تقلّد الأسلوب الأوروبي. ثم، حين بدأت أبحث عن المزيد حول هذه الأعمال، وجدت المزيد من التناقضات؛ فقد وصفت بأنّها تقليد "خانع" للشكل الغربي، ولكن أيضا بأنها ترجمات سيّئة، ونسخ غير دقيقة. كيف يمكن لها أن تكون الإثنين معا؟ شديدة الشبه بالأصل الأوروبي من جهة، وغير مشابهة بما يكفي من جهة ثانية؟ كان هذا واحدا من الأسئلة. ولكن، من ثم، كانت هناك خاصيّة أخرى لهذه الأحكام التقييمية: كانت الروايات مجموعة من الأعمال لم تقرأها إلّا قلة من هؤلاء الباحثين: فهم فعليا أسسوا مجمل المسارات التاريخية للرواية العربية "الصرفة" وتعريفاتها بناء على عناوين هذه الأعمال وحدها، معتبرين أنه إذا كان عنوان الرواية هو "البؤساء" فإن المحتوى يجب أن يكون موازيا لرواية "البؤساء" لفيكتور هوغو، حتى لو كانت الترجمة والنص الأصلي يختلفان جذريا أسلوبا وحجما. فبالطبع، أردت قراءة هذه النصوص-والتي كانت بحد ذاتها مشروعا طويل المدى.
(ج): هل وجدتِ شيئا غير متوقع لدى قراءة هذه الروايات؟
(ر. ج.): في بداية بحثي، توصّلت إلى اكتشافات أوليّة مفاجئة فتحت الطريق للأفكار الرئيسية التي قدّمتها في الكتاب.
أولا، واجهتني تفاصيل عملية النشر والتي لم أكن آخذها في عين الاعتبار من قبل وهي: المكانة الرئيسية لتجزئة النصوص المترجمة ولتداولها؛ ظهور إصدارات منفردة في أماكن مختلفة؛ إعادة الترجمة في دول مختلفة؛ مقتطفات في مجلات بحثية مختلفة. من هنا فهمت أنه يتعين إعادة النظر بعمق في الإطار الثقافي لعملية النشر الوطنية، وهو إطار هيمن طويلا على دراسات الروايات.
ثانيا، اكتشفت أيضا مدى أهميّة النصوص الرديفة؛ تفحّصت الأساليب اللغوية في الإعلانات، وموقع الرواية في صفحات الصحف إذا كانت تنشر متسلسلة، وأيضا مقدمات المترجمين. وسمح لي ذلك برؤية كيفية تقديم النص، وبرؤية الترجمة كنوع من القراءة النقدية. كان أولئك المؤلفون يحددون موقع ترجمتهم ضمن تاريخ أشمل للرواية حيث اللغة العربية رئيسية، وليست هامشية، ضمن تاريخ طويل للروايات في الترجمة.
وأخيرا، وجدت ترجمات في أماكن لم أكن دائما أتوقعها؛ وجدت الروايات المترجمة نفسها التي صنعت خيالا عابرا للحدود الوطنية لقرائها. إلا أن الترجمة ظهرت أيضا في روايات أصليّة. وكانت الترجمة تُناقش في المجلات العلمية وفي القواميس. وأكثر من ذلك حتّى، فقد ظهر في أنواع النشر كلها تقريبا شكلا من أشكال الترجمة، من ترجمة الصحف الأجنبية من أجل أقسام الأخبار الدولية، وصولا إلى تلقي البرقيات. اكتشفت أن الترجمة كانت شرطا للقراءة في القرن التاسع عشر. كانت تقنية راسخة في عادات القراءة التي نفترضها أحادية اللغة.
الروايات الأولى بالعربية لم تنشر مترجمة، بل كانت تتطلب من القارئ أن "يترجم" ما يقرأ، وسط أطر مرجعية متنوعة، وأصوات السلطة، واللغات، والنصوص، وبالرغم منها.
(ج): ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
(ر. ج.): يتناول الكتاب، بصورة رئيسية، سبل تداول الأدب والأشكال الأدبية، وهو ينظر إلى الإنتاج الروائي من 1853 (لدى ظهور الرواية الأولى بالعربية) إلى نحو 1913. أقوم بدراسة روايات مترجمة وأخرى أصلية من الفترة تلك، إلى جانب الدوريات، والأطروحات اللغوية، ومحاضر المجتمعات الأدبية ومواد أرشيفيّة أخرى. استخدمتها ليس لفهم التاريخ المبكر للرواية العربية فحسب، بل أيضا لفهم كيف تُتداول الرواية كنوع عابر للدول. لفترة طويلة، عمل الباحثون على تنويعات لنموذج واحد لانتشار الرواية- - حيث "تنهض" الرواية في أوروبا ثم تُصدّر إلى خارجها. وأنا أناقش بالأساس أن هذا نموذج محوره أوروبا ويفترض أن أوروبا هي مصدر الأدب وموقع (النصوص) "الأصلية"، وأن الأماكن الأخرى كلها هي ببساطة "متلقيّة" للروايات في نسخ أدنى منزلة من النسخة الأصلية. ولكن إذا نظرنا إلى الترجمة كإنتاج أدبي عوضا عن كونها فعل "تلقي"، يصبح بإمكاننا أن نرى أن الترجمات ليست على الإطلاق نسخا عن الأصل-بل هي أعمال أصلية ناتجة عن علاقة نقدية مع نص المصدر.
الترجمة ليست نسخاً، بل قراءة نقدية، تفسير، نقد سياسي. والرواية المترجمة ليست نسخة عن الرواية الأصلية بل تنظيراً لها. هكذا، فإن الروايات المترجمة التي تشمل البدايات الأولى للرواية بالعربية (وفي أماكن أخرى) ليست نسخا متأخرة عن الأصل الأوروبي، بل تنظيرات لها، ونوع قائم بحد ذاته؛ لديها ما تضيفه عمّا يكوّن الرواية وما تقدمه. إن كتاب "قصص الأجانب" هو محاولة لفهم تنظيرات الرواية هذه، والتوزيع العابر للأوطان، مما يتطلب اعتبار المترجمين منظرين في الترجمة ومعلقين مطلعين على تاريخ الأدب، قاموا بتنظيم مدوّنة عابرة للأوطان للقراء العرب بعد إعادة تفسير الأصول الأوروبية وإعادة وضع سياقات لها، في عملية غالبا ما كانت تبعدها عن الأصل.
لكنه أيضا كتاب عن شكل المؤسسات المتنوعة للحداثة الأدبية كما كانت بالعربية في القرن التاسع عشر. وهو يبين كيف أن مؤسسات الطباعة والنشر والتحديث اللغوي والنطاق العام للنشر- وهي معالم النهضة- كلها بُنيت على الأساليب الجديدة لقراءة الترجمة. وهو يظهر كيف هيمنت الترجمة على صيغة من القراءة، والكتابة، والتحليل الثقافي لدى المؤلفين العرب في القرن التاسع عشر في افتراضهم لحداثتهم في علاقتها بأوروبا، وبتراثهم الأدبي، وغالبا، بالعالم ككل.
(ج): من تأملين أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغبين أن يخلّفه؟
(ر. ج.): بطريقة من الطرق، فإن الإجابة على هذا السؤال محبوكة بالعنوان الفرعي ذاته. هذا تأريخ للرواية في الترجمة العربية، وليس تأريخا للرواية العربية. وهذا يعني أنه وعلى الرغم من أن الرواية هي جزء لا يتجزأ من أرشيف نصي بمعايير لغوية معينة، إلا أن الأرشيف ذاته يتضمن ظروفا أخرى أوسع، وينظّر للرواية بشكل عام كنوع أدبي يعتمد على الترجمة. وقدم العديد من المترجمين الذين تناولهم بحثي أعمالهم على |أنّها تحدث ضمن تاريخ مستمر من الترجمة والتوزيع؛ وهم يطرحون- مثلي- فكرة أن الرواية العربية تتخذ من الترجمة والتبادل الثقافي قاعدة لها، مثلها مثل الرواية الأوروبية. الرواية لم "تظهر" في سياق معين ثم "سافرت"، مكتملة، إلى سياق آخر؛ لقد ظهرت داخل عملية تفاعلية من الترجمة، ومن خلالها. بهذا المعنى، ليست الحالة العربية محوريّة فحسب؛ بل هي نموذجية. وهذا يعني أن النتائج التي توصلت إليها الدراسة لها انعكاسات على التوزيع الأدبي العابر للدول كله، كما على سرديات الروايات غير العربية. لذلك، وإلى جانب الباحثين في الأدب العربي ومؤرخي النهضة، آمل أن يجد الباحثون في مجال تاريخ الرواية ونظرياتها بشكل عام، بالإضافة إلى دراسات الترجمة، هذا العمل مفيدا.
(ج): ما هي المشاريع الأخرى التي تعملين على إنجازها الآن؟
(ر. ج.): حاليا، عدت للعمل على مشروع أطروحتي لنيل الماجستير والتي هي-بطريقة ما- نسخة عن هذا البحث، ولكنّها تتناول القرن العشرين. وأنا مهتمة بالتاريخ الطويل لجماليات الأدب المعاصر وأساليبه (والتي تسمى أحيانا "تجريبية" أو "رائدة") وكيف تتصل بالالتزامات السياسية خلال حقبة القضاء على الاستعمار وبعدها. إلا أن مشروعي الأساسي يستكشف كيفية انجاز الأبحاث الأكاديمية في ظل ظروف (ما بعد) الجائحة. أفترض أن ذلك يتطلّب بعض التجريب أيضا!
مقتطف من الكتاب: "الرواية في عصر صورة العالم المقارن"
جاءت شعبية "كونت مونتي كريستو" في المقدمة من اهتمام أوسع للمخيلة العربية بالشبكات العابرة للأوطان في مجالي الإعلام والنقل. كان قراء "النهضة" يجدون بانتظام إعلانات عن توفّر إصدارات أجنبية، وخدمات توصيل الرسائل والطرود (البريدية) من وإلى الخارج، وعن التوزيع الخارجي للدوريات المحليّة؛ وأيضا إشعارات تعلن تمديد أسلاك تلغراف وتأسيس شبكات بريدية؛ ومقالات تلي افتتاح سفن بخارية وخطوط سكك حديدية... كما أن هذا الاهتمام لم يكن حكرا على القراء باللغة العربية. فافتتاح قناة السويس كان بحد ذاته حدثا إعلاميا عالميا؛ وغطّت الصحف العربية- كما الأوروبية والأميركية- ربط القارة الأميركية بأوروبا عبر أسلاك البرقيات في 1866، ووصل شبكتي سكك الحديد "يونيون" و"سنترال باسيفيك" لتغطي سواحل الولايات المتحدة في 1869، ومن ثم في 1870 دمج سكك الحديد في الهند الذي سمح بالسفر من بومباي إلى كلكتا.
ومع حلول الربع الأخير من القرن، كان العالم نفسه قد تحوّل إلى وحدة تحليل مشتركة. وارتفعت وتيرة المقالات التي تعدد "سكك الحديد في العالم" أو "صحف العالم"، مثلها مثل المقالات التي تشرح سبل السفر "حول العالم" ومقالات مقارنة تشرح الفارق بين "مناطق العالم". كان بإمكان القراء أن يروا أنهم يعيشون في العالم ذاته مع أولئك البعاد. وكان لديهم سككا حديدية أيضا، أي: سكك الحديد المصريّة أو السورية أو العراقية كانت واحدة من "سكك الحديد العالمية"؛ كان ينظر إليها باعتبارها جزء من شبكات سكك الحديد العالمية الأشمل. انضمت ترجمة "مونتي كريستو" وروايات أخرى ذات الصلة إلى تقارير الترابط هذه لتتيح للقراء بالمشاركة في العملية العالمية لإعادة تخيل جميع أرجاء العالم.
في كانون الثاني/يناير 1872، في الواقع، عرف القراء في بيروت أنهم هم أنفسهم يستطيعون أن يجوبوا العالم كلّه. فوسط أنباء دولية أخرى متداولة- شهادة عن مطاردة متنقلة مسكونة بأرواح يلاحقون أسرة فرنسية إلى مواقع متعدّدة (إنها الحقيقة، على الرغم من كونها غير قابلة للتفسير) وتحديث لأسعار القهوة والسكّر والأرزّ- عثر قرّاء المجلّة الأسبوعية الكاثوليكية "البشير" على خبر عنوانه "رحلة تحمل المسافر حول العالم". ويبدأ الخبر بالقول إن "أفادت "صحيفة التجارة" أنه شوهد على جدران مدينة سان فرانسيسكو في أميركا، إشعارا يعلن عن رحلة حول العال في 82 يوما". وبعد تحديد المسار والمسافات بين المحطات ("من هونغ كونغ إلى كلكتا، 3500 ميلا")، يشرح الكاتب أنه يمكن للقارئ القيام بالرحلة ذاتها بطريقة أسرع حتّى، وأكثر سهولة وراحة: ويشرح أن "جولة حول العالم بأربعين دقيقة فقط"، ستصبح ممكنة قريبا مع التلغراف، ما إن ينجز الخط بين أميركا واليابان.
وكان بإمكان قرّاء "النهضة" أن يقرأوا عن عالم متصل، والسفر فيه، مجازيا وفعليا. وكانت شبكات التواصل والنقل هي شكل تخيلات القرّاء العالمية وأرضيتها.
وبالفعل، فمن أجل تمثيل العالم، كان المادي والمتخيّل غالبا، وغالبا للضرورة، منصهرين. في أيلول/سبتمبر 1874، بعد عامين على صدور إعلان الرحلة حول العالم في "البشير"، علم القرّاء أنفسهم عن رحلة أخرى، عنوانها "الرحلة الجويّة في المركبة الهوائيّة المعروفة بالبالون"، والتي "اختصرت" من رواية جول فيرن "خمسة أسابيع في البالون" (1863). وقد تمت تجزئة الرواية لتنشر على حلقات حتى تشرين الثاني/نوفمبر من العام التالي، إلا أن هذه الترجمة ظهرت إلى جانب أخبار واقعية عن أسفار لمسافات طويلة، وقدمت بطريقة مبهمة وكأنّها خبر وقعي أيضا. وعلى الرغم أنها نشرت تحت الشريط الفاصل في القسم الذي كان مخصصا سابقا للقصص، إلا أنّها لم تصنّف كـ "قصة"، كما كانت تصنف القصص المتسلسلة سابقا. وعوضا عن ذلك، وصفت ببساطة بتعبير عام هو "كتاب"، عن "رحلة من شرقي أفريقيا إلى غربيها" بالبالون. وكان يضاعف من هذا الالتباس تقطع نشر السلسلة في سبيل نشر العديد من المقالات الإخبارية الطويلة عن السفر والاستكشاف: في أحد أعداد المجلة نشرت مقالتا "دراسات جغرافية وخرائطية"، و"البعثة البريطانية إلى جزر كيرغولين"، بدل القصة، في حين استبدلت بمقالة "فوائد الاستكشاف العلمي البريطاني للقطب الشمالي" على امتداد ثلاثة أسابيع متتالية. هكذا، يمكن للرحلة التي حكيت في هذا الكتاب أن تكون حصلت فعلا في الواقع أو أن تكون متخيّلة.
هذا الصهر بين العالمين المتخيل والملموس ليس مؤشرا على سذاجة معرفية. لم يلجأ ناشرو المجلة إلى تداخل هذين النوعين لأنهم أخطأوا بين الواقع وبين القصة. بل فعلوا ذلك لأنهم اشتركوا بالمشروع العقائدي المركزي لعولمة القرن التاسع عشر: تحويل جميع الأماكن المتنوّعة والأشخاص المختلفين في العالم إلى وحدة واحدة، مقروءة، ومترابطة ببعضها البعض. وكما طرح مارتن هيدغر "كان الحدث الأساسي في العصر الحديث هو غزو العالم وكأنّه صورة" هي نفسها "صورة للعالم متصوّر ومفهوم على أنّه صورة.... في مجمله". وكانت صناعة العولمة بعيدة كل البعد عن كونها عملية تجريبية فحسب، إذ كانت أيضا عملية من صنع الخيال وعملية تطلبت تقنيات وجماليات وأشكالا جديدة. ... خرائط للعالم، كرات أرضية، أطالس، وكلّها ارتفعت شعبيتها في أوروبا حيث كان المستكشفون يرسمون خرائط لما اعتبروه المساحات الأخيرة "غير المكتشفة"، وكانوا يصنعونها مستخدمين ما يمكن لباحث أدبي أن يسميه وسائل استعارية: استقراءات، أفكار تجريدية، وإسقاطات.
[....]
كانت ترجمات القصص العالمية بوضوح... تساعد القراء على الموازنة بين مفاهيمهم وتجاربهم للعولمة في حين كانت وعودها بالمزيد من الازدهار مخترقة بتجارب اقتصادية وجسدية حرجة، إلى جانب تدخل حكومي متزايد في الحريات المادية والعائلية وحركتها. في الفترة الممتدة بين 1885 و1895 التي أنجزت خلالها هذه الترجمات (لقصص جول فيرن العالمية)، وجد القراء حركتهم تقيّدها أنظمة هي بدورها مدارة ومقيدة من قوى خارجية-عبر حكم استعماري مباشر وغير مباشر. ففي حين كانت هذه الروايات تقدّم نماذج تبدو ذات سيادة، تتحرك بحرية وبلا أي عقبات في الفضاء وحتى في الزمان، كانت ترجماتها تحتوي على آثار تجارب التقييد تلك.
لم تكن مخاطر التنقل أمرا نظريا بالنسبة لمنتجي تلك الروايات. فمترجما "رحلة إلى مركز الأرض" يوسف عسّاف واسكندر عمّون ولدا في متصرفية جبل لبنان، في حين أن كلا من الناشر سليم خليل النقّاش (1850-1884) الذي أنشأ دار "المحروسة"، وجرجي زيدان الذي أسس دار "الهلال" ولدا في بيروت؛ كلهم هاجروا إلى مصر بين العامين 1875 و1885. وذلك يعني أنّهم، مثلهم مثل ثلث سكان متصرفية جبل لبنان، تهجروا بسبب الحرب الأهلية، وقمع السلطة أو الضغوطات الاقتصادية. والأكثر من ذلك هو أنه كانت لدى المترجمين كلّهم صلات مباشرة مع الأنظمة الاستعمارية. كان توفيق دوبارية ابن يوسف بيك، مترجم "رحلة إلى القطب الشمالي"، هو حفيد ألكسندر دوبريه، أحد أفراد مجموعة من الباحثين في مجال الطب دعاهم حاكم مصر محمد علي باشا إلى مصر، بقيادة كلوت بيك. كما أن كلا من يوسف عسّاف واسكندر أنطون كانا موظفين في الحكومة الاستعمارية البريطانية لدى نشر ترجماتهما. وقام هؤلاء المترجمون، وهم مرتبطين مع مؤسسات الاستعمار لدى نشأتها، بإنتاج أعمال وآراء دولية لا يمكن فصلها عن الاستعمار.
[...] في حين كانت نصوص جول فيرن معدّة لإثبات أن العالم متواقت، ووحدة منفردة، وسالك للسفر، كانت الترجمات العربية تلحظ عوضا عن ذلك أن الوحدة العالمية هي نتيجة للمشروع الاستعماري. ويقدم هذا الاختلاف في الترجمة صورا معقدة للعولمة في القرن التاسع عشر وهي أكثر من مجرد صور طوباوية عن الانسجام العالمي. فمديح شبكة سكك الحديد في أميركا الشمالية على أنها "أداة تقدم وتحضّر ألقيت على امتداد الصحراء، ومصممة للوصل بين المدن والبلدات"، مثلا، حذف ببساطة. وبدلا عنه، بعد ذلك بصفحات، توصف شبكة السكك الحديدية تلك بأنها مشروع استعماري بوضوح. وكما في نص فيرن، يهاجم محاربو سيو (من قبائل السكان الأصليين لأميركا) - الموصوفين بالقرود في النسخة الفرنسية ولكن ليس في النسخة العربية- القطارات، وهو هجوم تصوره النسخ العربية بالمبرر بسبب وحشية عملية بناء سكك الحديد. فالسو، كما تشير ملاحظات عسّاف بالعربية، "ومنذ تأسيس السكك الحديدية على أراضيهم"، "أصحبت وظيفتهم" مهاجمة القطارات: لم يكن ذلك هجوما اعتباطيا أو خطوة للانتفاع بل عنفا محسوبا مناهضا للاستعمار، "وظيفته" هي التحرر.
في "الرحلة العلمية في قلب الكرة الأرضية"، لا يعتبر الراتب الشهري الذي يعطيه البروفيسور ليدينروك لدليله، تدخلا هزليا في القصّة المشحونة، بل هو حدث بحد ذاته يستحق التعليق والتوسّع. في النسخة العربية، كان العالِم، وعلى امتداد الرحلة، يوثّق تفاصيل تاريخ العالم برمّته، ولكنه كان يوثّق أيضا تفاصيل راتب خادمه. وهذه الإضافة تذكّر القارئ أن تاريخ الكرة الأرضية لا يمكن أن يدوّن من دون سجل للعبودية.
إن ما تقدّمه قصص الترابط هذه ليس مقاومة للعولمة بل تصور منافس لها. وهي تُظهر أن الحداثة التكنولوجية لا تقدم إلا وحدةً مشروخة، وليست تامّة. وهذا ما يفسر، في معظم الأحيان، لماذا يتم حذف كلمة "عالَم" نفسها من هذه الترجمات؛ فالكليّة محجوبة. ولكن، وهذا مهم، لا يصار إلى إلغائها، بل إلى إعادة تشكيلها فحسب. في "الرحلة الجويّة"، يتم حجب تلك الكليّة حتى النهاية، حين-وبعد حجب أربع إحالات إلى كلمات "العالم" و"الأرض" و"الكوكب"- يضيف المترجم يوسف سركيس خلاصة موجزة بتوجه عالمي كانت غائبة كليا في النسخة الفرنسية لفيرن. ففي حين يختم فيرن نصّه بشرح أن أهمية السرد تكمن في المعلومات الجغرافية التي يوفرها عن أفريقيا، يوسّع سركيس نطاق أهمية النص، مستخلصا مطالب جغرافية ومعنوية أخلاقية أوسع بكثير. [...] لهذا السبب، يناقش فينغ شيا أن العمل الأدبي لا يعكس ببساطة القوى العالمية أو يواجهها بمفعول رجعي، بل هو يحتوي على ما يسميه بـ"القوة المعيارية..في العالم." ولا تقدم القصة للقارئ نظرة عن العالم بل هي تطرح رأيا حول كيف يجب أن يكون: "هي تخوض المعركة التي ينتصر فيها كشف الكائنات ككل- أي الحقيقية"، بحسب قول هيديغر. وكما يشرح سام فيبير "ليس من أماكن آمنة" في نظرة هيديغر للعالم. وتلقي هذه الترجمات لقصص فيرن العالمية الضوء على الهوة بين العالم وبين النظرة للعالم وهي ما يسميه هيديغر "انفتاح" الأعمال الفنية- والتي لا يعني بها قدرتها على خلق المعنى بطرق متعددة ومتضاربة فحسب، بل أيضا قدرتها على خلق أطر متعددة للمعنى... وقد فهم هؤلاء المؤلفون والمترجمون، أن فهم العالم ككل يعني القراءة في الترجمات.
[نشرت في جدلية. ترجمة هنادي سلمان].